ما يزال ملف تشكيل الحكومة التوافقية شائكا، ولابد أنه سيكون شديد السخونة بمجرد الشروع في طرح أسماء المرشحين من كلا الطرفين، وربما من مبعوث الأمم المتحدة الذي -بحسب بعض المصادر-، تقاطرت عليه سير ذاتية كثيرة يعقتد أصحابها أنهم الأجدر والأقدر لقيادة السفينة إلى شاطئ الأمان. البعض دعاه الواجب الوطني أن يتقدم لهذه المهمة الشاقة والخطيرة في هذه اللحظة التاريخية، والبعض تقدم لأنه الأحق، وآخرون لم يكونوا راغبين ولكن أقنعهم من يفهم بذكاء طرق إدارة الصراع دون التفات إلى معايير الكفاءة المطلوبة لهذه المنصب في هذا الوقت العصيب.
أطراف النزاع وصلت إلى مستوى من فقدان الثقة وتشكيك كل طرف في نوايا الآخر؛ بحيث لا يمكن أن يكون المنصب لمرشح من أحدهما إلا في حال كان المرشح حياديا بكل المعايير، وهو أمر ربما لا يقدم عليه الطرفان المتنازعان، مما يعني احتمال أن يكون رئيس الحكومة الجديد من خارج دائرة مرشحي طرابلس وطبرق، وهذا قد يقود إلى ضعف الاستجابة، وضعف التأييد إلا في حال نجح الأطراف في الحصول على بعض المناصب الحيوية لمرشحيهم، وفي هذه الحالة، فإن المرشح القابل للنجاح في المهمة المناطة به هو مرشح الخارج الذي يحظى بدعم قوي من الأطراف الدولية، ويدخل في هذا الدعم ممارسة كل البدائل المتاحة للغرب للجم الطرف الذي يناصبه العداء.
وقوع هذا السيناريو يعني أن الحكومة ربما لن تكون متجانسة ومتوافقة كما يراد لها، بل بعض ما ستواجهه من تحديات سيكون من داخلها في حال تم التوافق عليها قريبا، وتشكيلها فور الاتفاق على رئيسها.
المسألة الأخرى الأهم، هي الواقع المرير والعقبات الكثيرة التي خلفها النزاع والصراع الذي تورط فيه العديد من الأطراف غير مدركين أنهم في نهاية المطاف لن يتحصلوا على عشر ما تعنتوا لأجل الحصول عليه.
اعتقد أن المقاربة الخارجية لمهام الحكومة التوافقية هي الضغط بكل الوسائل لعزل الأطراف الرافضة لـ"سياسة الردم"، والتي من المتوقع أن تكون خيار الحكومة التوافقية التي سيضغط الطرف الدولي لأجل تمريرها، مما يعني أنها ستتصادم مع أطراف ترى في سياستها انحرافا عن المسار، ولأن الأغلبية تنشد استقرارا دون الالتفات إلى هويته، ومن الخاسر فيه ومن الرابح، فإن الطرف المصادم للحكومة سيكون مرفوضا شعبيا.
هناك التجمعات ذات البعد الجهوي والقبلي، وهي بالقطع ترفض التوجيه، وهناك الإدارة من المركز، والتي لن تقبل إلا بنفوذ وصلاحيات محلية لا يكون لها دور نافذ فيه. وسيكون من الصعب الأخذ بسياسة التفويض في ظل التعقيدات السياسية والأمنية الراهنة وفي ظل عجز الموازنة وتراجع إيرادات الدولة.
المجموعات المسلحة من الملفات المعقدة جدا، فلقد استمرأ الكثير منهم السلطة ونمى وتوسع في ظل الفراغ السياسي والأمني وغياب سلطة الدولة وسلطة مؤسساتها الأمنية، بحيث أصبحوا يمثلون قوة ليس من اليسير تفكيكها، ومن الخطير احتوائها بما هي عليه، وأكرر القول إن المتوقع في ظل الحلول السريعة أن يتم ممارتها بشكل يعقد الوضع ولا يتجه به إلى حل جذري.
الملف الأكثر تعقيدا هو ملف المجموعات الإسلامية المتشددة، وهو بيت القصيد من تدخل الأطراف الدولية في الوصول إلى حل سياسي وحكومة توافقية، وسيكون مطلوبا على رأس أجندة الحكومة التي سيوافق الغرب على تشكيلها التعامل مع هذه المجموعات واستئصالها، ومن المتوقع أن يكون الدعم الدولي السياسي والمادي مشروطا بتحقيق هذا المطلب، ولأن الملف شائك وأداوت التعامل الأمثل معه لا تقتصر على الخيار الأمني، بل تتطلب منظومة متشابكة من السياسات ...الخ، فإن الضغوط وما قد يترتب منها من خيارات حكومية في هذا الاتجاه قد تعقد المشهد وتضاعف التحديات أمام المسار الانتقالي الجديد.
ربما يخلص القارئ إلى أن تشكيل الحكومة عبث ولا طائل منه! والرد بالتأكيد لا، لكن المطلوب لتنجح الحكومة أن تنتقل إلى التوافق ضمن مكونات المجتمع على أولويات المرحلة، وأن يكون في مقدمة مشاريعها تنشيط الحوارات الداخلية للوصول إلى خيارات صائبة تكون ضمن أجندة الحكومة لتحظى بالدعم الداخلي الذي في رأيي هو الضامن الأهم لنجاحها.