لقد بات لزاما التفكير في صناعة فكر بديل يخرجنا من سطحية الفهم ودوائر الوهم التي لم تبق ولم تذر، فجعلت الدول العربية مختبرا لكل الإيديولوجيات ما ولّى منها وما هو آت، وسنام كل ذلك هو وضع مفهوم للدولة مستقل عن هاته المفاهيم الغربية السائدة، أو تلك الرجعية منها والبائدة.
فما هو سائد الآن من مفهوم الدولة الحديثة قد كان له خلفياته البعيدة بالنسبة للدول الغربية، ولأننا قد فوضنا لهم مقام النصح والإرشاد، فقد سلمنا لهم بكل رأي، وصرنا قطعانا طائعين لا نملك من سبيل غير أن نكون لهم خاضعين، فنشأة الدولة المدنية الحديثة هي وليدة انفجار عظيم قد هز أركان الفكر الغربي القديم، فما عصر التنوير إلا عصر قد أعقب عصورا من الظلمات والويلات، تلك التي كان فيها القياصرة الرومان يحكمون بسلطة سماوية مزعومة.
فالقيصر في الوثنية هو ابن السماء، وفي المسيحية هو رئيس الكنيسة، وحليف الكهانة التي جعلت من نفسها وكيلا عن الإله ينطق، فحكمت بما اشتهت وطغت فأفسدت، ولأن كل ذاك الخراب والتدمير لابد له من تغيير، فقد برز العديد من المفكرين والفلاسفة الذين رأوا أن فكرة الدين هي الفكرة التي ينبغي الإفتكاك والخلاص منها، ومن بين القناعات التي لم يكن يرقى إليها كثيرٌ من الشك لدى مفكري القرن التاسع عشر، أنّ المكانة المركزية التي يحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئا ماضويا، إذ اعتبر هيغل ومن قبله من مفكري عصر الأنوار أن العقل بذكائه المتفوق قد تخطَّى الدين، في حين صور فويرباخ في كتابه جوهر المسيحية (1841)، علاقة الإنسان بالألوهية على أنها لعبة قوى محصّلتها الصفر، ورأى أن الإلحاح على الإيمان والتقوى ينتقص من رفعة الغايات الإنسانية.
فظهرت بذلك تيارات الحداثة الثلاثة الرئيسية وهي: النقد الماركسي بزعامة كارل ماركس الذي رأى أن الإنسان، بوصفه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان، ذلك أنّ الدين في نظره هو "زفرة المخلوق المضطهَد، قلب عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح_ الدين أفيون الشعوب_".
وهذا ما يقتضي حسب رأيه إلغاء الدين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنقد الدين واللّاهوت بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق الدين واللاهوت.
أما التيار الثاني فهو الجينالوجية النيتشوية، والتي أعلن من خلالها نيتشه على لسان زرادشت، أن "الله قد مات"، ووصف المسيحية بأنها "أخلاقية العبيد"، أو منظومة اعتقادية عامية تلائم الخانعين الجبناء، ولم يقرظ من بين ممثلي المسيحية سوى أولئك الذين وجدوا متعة بالغة في وقوفهم أمام محاكم التفتيش التي كانت تأمر بإحراقهم، فنظر هذا الأخير بازدراء كبير للدين، ورأى أنه مجرد ملجأ للضعف، وعقبة في طريق الإنسان الكامل، ثم تناول بعد ذلك الفيلسوف دريدا من خلال مساحة واسعة من التفكيك تلك التيارات في بعدها الإيماني، الباطني فالعهدي.
فمن هيغل إلى دريدا بقيت فكرة
اللائكية وفصل الدين عن الدولة هي الحل البديل للتحرر من أهوال حكم كهنوتي تشيب له نواصي الولدان، غير أن الدول العربية راحت تمجد من غير فهم للمسببات ولا وعي بالإشكالات تلك الإيديولوجيات، فكانت تماما كما قال أفلاطون: "فقط الحراس يفكرون أما البقية فيطيعون"، وصارت منقسمة بين علمانيين يريدون فصل الدين عن الدولة، وإسلامويين يريدون دمج الدين في الدولة، فكان للأسف كلا الفريقين على ضلالة.
ذلك أن العلمانية هي نتيجة تجربة تخص الغرب لوحدهم، كما أنها تقتضي كما بيّن طه عبد الرحمن الإفادة بأن الدين شيئ والدولة شيئ آخر، فيكون الدين هو ما يتعلق بالمعتقدات الخاصة، والدولة هي ما ارتبط بتدبير المعاملات العامة، في حين أن الدين حقيقة هو نهج تدبيري للسلوك في الحياة، متكامل العناصر ومتداخل الجوانب، أما أهل التأسيس القائلين بدمج الدين في السياسة، فهم كما قال طه عبد الرحمن أيضا: "الإسلاميين قولا، العلمانيين فعلا"، فانحصر الدين عندهم في جملة شعائر وطقوس، وجعلوه تابعا للسياسة ،ولو كان ذلك مخالفا للشريعة، فكان دمجهم للدين في السياسة هو من أجل خدمة أغراض تسييسية تتيح للدولة السيطرة على المواطنين دون رقابة، فتجعل الأحكام
التشريعية على مقاساتها.
إن فكرة إقحام الدين في السياسة وهي تفند العلمانية وتريد أن تكون بديلا عنها، هي في الحقيقة تثبثها من حيث أرادت نفيها، لأنه لا يراد إثبات عكس الشيء ونقيضه إلا إذا كان ذاك الشيء موجود على الحقيقة، إذ العلمانية غير موجودة أصلا، بل هي فكر على الدول العربية دخيل، وليس له أي قواعد أو أصول، ومجرد خبل ينبغي أن يزول، فما كان يوما الدين عندنا منفصلا عن السياسة، فمن ينادي بفكرة ضم الدين للسياسة في الدول العربية هو تماما كمن ينادي بفكرة ضم اللغة للأبجدية، فعلينا غربلة العقول من إمعة عمياء وتبعية عرجاء.