ظهر
تنظيم الدولة على الساحة العالمية، بعد ثورات
الربيع العربي، وازداد قوة وانتشارا مع اقتراب بعضها من تحقيق أهدافها، وأخذ المساحة الأكبر من وسائل الإعلام، ومداد الأقلام، وحاز على عواطف كثير من الشباب، و"ملأ الدنيا وشغل الناس".
وقد سمعت عن رغبة بعض الشباب المتدين، في بيعة أمير هذا التنظيم على أنه خليفة كل المسلمين في الدنيا، ثم جمعني لقاء خاص مع أحد الشباب، جاء يستفتيني في ذلك، فرأيت أن واجب البيان، وأخوة الإسلام، وأدب النصح، وواجب البيان،... تحتم علي بيان رأيي في الموضوع، مؤكدا أن ما أكتبه ليس بحثا مستوفيا لأصول الكتابة العلمية، إنما هو نصيحة كتبتها مرتجلا، من عفو الخاطر، ثم قمت بتهذيبها.
كما أنها ليست فتوى عامة، تصادر ما تقوم به
مؤسسات الفتوى المعتبرة، إنما هو "رأي" فقهي، ومقاربة علمية، قابلة للصواب والخطأ، وسأنتفع بنقدها والحوار حولها، أكثر من مدحها والثناء عليها.
ويجب التأكيد على أمر مهم، حتى يفهم كلامي في سياقه ومساقه..، وهي أني مستوعب للسياق التاريخي، والسياسي، والاجتماعي، الذي خرج فيه هذا التنظيم، حيث كانت لي مداولات مع كثير من العلماء والمفكرين، وقرأت كثيرا من البحوث والدراسات، حول جذور نشأة هذا التنظيم من "رحمه" إلى "مهده"!، وأقصد برحم التنظيم، جزيرة العرب وأفغانستان، ومهد التنظيم، العراق والشام".
وأعلم أيضا، أن بعض الناس ينظرون إلى تنظيم الدولة كمشروع " تفكيكي"، أو يتعاملون معها كرأس حربة يردون بها عدوا أكبر، وخطرا أعم، ومؤامرة أشمل...
وأعلم أيضا، أن هناك علامات استفهام مازالت قائمة، وعلاقات مشبوهة مازالت غامضة، ومناطق بحث مازالت مظلمة، حول هذا التنظيم، ونشأته، وأهدافه، ومواقفه، ومساراته، ورموزه، ومآلاته...
ولهذا فأنا "هنا" أتكلم عن مسألة فقهية محددة، وهي الحكم الشرعي- بمفهومه الواسع -لهذه البيعة التي تتعلق بالولاية العامة...، ولا أبحث عن غير ذلك من القضايا والحيثيات، وهذا ملخص لهذا الرأي وتلك المقاربات:
أولا : إن "الخلافة "لا تثبت شرعا ولا عرفا إلا بإنابة من الأمة، وجمهور المسلمين أو من يمثلهم من الأعيان والعلماء، والأكفاء، وصناع القرار...، أو ما يسمى في فقهنا الإسلامي (أهل الحل والعقد)؛ لأن الخلافة -لغة وشرعا- : هي نيابة عن الناس في الحكم، والحكم هو ولاية "عامة " على الناس كافة، و"الخليفة " أو الرئيس هو نائب عن الأمة في حراسة الدين وإدارة شؤون الدولة وفق سماحة الإسلام وأحكامه.
ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه روضة الطالبين "الأصح أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد من العلماء، والرؤساء، وسائر وجوه الناس، الذين يتيسر حضورهم".
ووفق هذه القاعدة الثابتة فإنه لا تنعقد الخلافة لأحد، بمجرد رغبته أو إعلانه في فريق من أنصاره، بل لابد من التعبير الصريح أو الضمني الذي يؤكد إرادة الأمة وموافقة جمهورها، وتوافق علمائها وأعيانها، على إنابة هذه الحاكم لإنفاذ سلطته فيهم، ولهذا عندما سئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – عن معنى حديث النبي صلى الله عليه" من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية " قال: تدري ما الإمام ؟ الإمام الذي يجمع المسلمون عليه، كلهم يقول : هذا إمام ".
ثانيا: إن "الخليفة " أو الرئيس، هو أهم وأخطر منصب في أي دولة، ولا يستقيم عقلا- فضلا عن الشرع-، أن يحكم جمهور الأمة، دون معرفة كافية به، تبين قدراته ومواهبه، وتاريخه، وأهليته لإدارة الدولة، والملامح العامة لمنهاجه الذي سيحكم به!.
وبالنظر في واقع بيعة البغدادي، نرى أن الذين بايعوه عن معرفة به أو عن رضى وقناعة لا يتجاوز العشرات من مجهولي الحال أيضا، ولم تحدث مشاركة، بل حتى علم بهذه البيعة من علماء وأعيان العراق والشام فضلا عن الأمة، ولا ندري مَن مِن علماء الأمة، وفقهائها، وأعيانها المعروفين بايع هذا الأمير...، بل المنقول والمشتهر هو أن كل مجامع الأمة الإسلامية -بكل طوائفها -وكبار علمائها، أنكروا هذه البيعة، بل حرموا الدخول فيها!
صحيح أن من حق المسلمين – ولو كانوا ثلاثة في سفر – أن ينصبوا أميرا ينظم شأنهم، ويديبر أمرهم، ولكن هذا لا يجعله أميرا على كافة المسلمين، دون مشورتهم ورضاهم، ولا أميرا، بل ولا أميرا على هؤلاء الثلاثة خارج مجال سفرهم، وإلا كان داخلا، بوجه من الوجوه في قول الفاروق عمر رضي الله عنه: "من بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ".
ثالثا: قد يظن بعض الشباب المتحمس أن استعمال القوة، هو فرض للواقع، وضرب من ضروب ولاية (المتغلب)! وهذا جهل كبير بأحكام الشريعة، وجهل أكبر بفقه الواقع والتوقع، وتعد على مجال الفتوى في أمر خطير جدا، يمس دماء الناس وأموالهم، فحكم المسلمين كما يحتاج لشرعية، فإنه يحتاج لمشروعية أيضا، فلا يكفي أن يكون المرء مؤهلا للحكم، أو محاطا ببعض الأتباع حتى يحكم!.
وهذه المشروعية هي "عقد" من عقود التوافق والتراضي، فالعقود لا تكتسب مشروعيتها، ولا تنعقد، ولا تصح، ولا تترتب آثارها، إلا بركن ركين وهو "الرضى" الذي يتجلى فيما أسماه الفقهاء (صيغة العقد) في بعض القضايا كالبيع والزواج وغيرها../ وإذا توفر الركن، لابد أن تنتفى كل الموانع التي تشوب هذا العقد، كالإكراه، والخوف، والجهل بمحل العقد، وعدم الأهلية، وغير ذلك مما هو منثور في كتب العلم، فإن كان الله تبارك وتعالى ينهى عن الإكراه في الدين والإيمان، فكيف يرضى- سبحانه - بالإكراه في السياسة والإيمان!
والعبرة في أحكام الشريعة بالحقائق والمعاني القائمة، ومدى تحقق أوصافها، وتحقيق مآلاتها، وليس بمجرد رضى الناس بالاسم والشعار، والرايات والأعلام، ولهذا يقول الإمام والعلامة التونسي ابن عاشور – رحمه الله - : "إياك أن تتوهم أن بعض الأحكام منوط بأسماء الأشياء أو بأشكالها الصورية غير المستوفية للمعاني الشرعية، فتقع في أخطاء في الفقه".
هذا في فقه الأحكام العملية، فكيف إن كان هذا الخطأ في مسألة يترتب عليها قتل أو تكفير أوتبديع أو هجر للمخالف، بل استحلال دمه بحجج باطلة، ونحو ذلك..؟
رابعا: من المعلوم أن أحكام السياسة، وتدبير الشأن العام، وإدارة الدولة، لا تدخل في أبواب العقائد، مادام المسلم مرتضيا حكم الله تعالى في العموم، بل تدخل في أبواب فقه السياسة الشرعية، وهي فعل إنساني ينضبط بالشرع، ولكن يدور في فلك المقاصد، والعلل والمآلات، ولا تدور – في أغلب أحوالها – حول حرفية النص وظاهر الألفاظ، وأن "الخلافة" أو الإمامة، بالنسبة لأهل السنة والجماعة – خلافا للشيعة – تدخل في مجال الأحكام العملية. ولا تدخل في مجال العقائد ولوزام الإيمان، وأحكامها تدور حول علل يجب تحقيق مناطها، ومآلات ينبغي رجحان تحققها، وإلا كانت باطلة ممنوعة شرعا!.
والسؤال هنا: هل ستحقق بيعة رجل قابع في أقصى الأرض مصالح المسلمين في قارات وأصقاع أخرى، وهل ستزيد من وحدتهم، وتعالج جراحهم، أم ستحدث مزيدا من التمزق والشقاق في النسيج الاجتماعي، وتضييعا لمصالح الناس، وتهديدا لمستقبل الأجيال، وصرف الجهود عن مواجهة العدو الحقيقي المتربص..؟.
ثم هل ستعطي هذه التصرفات، صورة طيبة للشباب المتدين في نفوس الناس؟، وهل ستلقى قبولا من جمهور عامة المسلمين فضلا عن علمائهم وأعيانهم؟ أما أنها ستستعدي كل هؤلاء، بل وتحشد معهم كل العالم في خندق واحد ؟.
وهل قتال من لا يعترف ببيعة هذا "الإمام" يستوجب الهجر والقتل واستباحة الدم والمال؟ أم أن هذا يخالف مقصود الشريعة من تنصيب الإمام الذي يفهم من قول إمام المتقين صلى الله عليه وسلم " الإمام جنة "، أي وقاية من الضرر على نفس الإنسان ودينه وماله وعرضه..!.
خامسا: إن نصرة الدين، وتحكيم الشريعة هي مقاصد كبرى وغايات عظمى، لا ينكرها مسلم، ولكن شأنها شأن أي مقدس في الدين، يمكن أن يكون – كما أراده الله تعالى – رحمة، وعدلا، ونورا، وحياة، إذا كان موافقا لهدي الإسلام وسعة أحكامه، وروعة مقاصده، وتجليات خصائصه، ثم صدر من أهله، وفي محله...، ويمكن أن ينقلب إلي قسوة، وظلم، وظلام، وهلاك، إذا خالف هدي الإسلام، وتحكمت فيه الأهواء، وأهملت فيه المقاصد، وتسور جداره الجهلة، و"حدثاء الأسنان".
فالقرآن وهو كتاب الهدى والشفا، قد يكون في آذان أهل الأهواء وقرا، وفي أعينهم عمى! قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.
والصلاة وهي عمود الدين، قد تنقلب على صاحبها ثبورا و"ويلا" قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون.
والعلم، وهو ميراث النبوة، قد يهبط بصاحبه لأرذل المقامات، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ...،.. والشواهد في ذلك كثيرة، فجمال المقصود، وإخلاص القصد، لايغني بأي حال عن صحة الوسيلة، وصواب العمل.
إن هذه الأسئلة -وغيرها كثير – تطرح نفسها على كل مسلم عاقل، يريد بعمله رضى الله تعالى، واتباع هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، ورحمة الخلق، وسعادة الدارين، دون تكلف ولا تعسف .
ولكل هذه الأسباب فإن مثل هذه البيعة لا تنعقد شرعا، ولا تصح أثرا،.. ويجوز للمسلم أن يدافع عن دينه، وعرضه، وماله، وأن يقاوم الصائل، ويقاتل الغازي، ولو لم تكن في عنقة بيعة عامة لخليفة المسلمين .
أخيرا أقول لأهلي في
ليبيا، وبخاصة الشباب المتدين منهم، احرصوا على سلامة عقيدتكم، وصحة عبادتكم، وقوة أخلاقكم، وثقافة فكركم، وإياكم والغلو في الدين فإنه أهلك أمما وشعوبا من قبلكم، ولا تجعلوا دينكم – وهو أغلى ما تملكون – مرتعا للفتاوى الشاذة، وتجارب المغامرين، أو سلما يصعد عليه تجار الحروب، أو نفقا يتسلل منه ضباط المخابرات، أو متنفسا لأصحاب العلل النفسية، والعقلية من كل حدب، وصوب.
نعم إن أوطاننا تحتاج لمد الآيادي لبيعة، وعهد، وميثاق،.. ولكنها بيعة حرة، راشدة، متعقلة،... تنطلق من هدايات كتاب الله تعالى، و سنة رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- في ضوء مقاصد الشرع، وفهم الواقع، ومراعاة المكلف، .. يبيّنُها لنا العدول الثقات من العلماء الربانيين الذين تشهد سيرتهم، ومسيرتهم بالعلم الراسخ، والعمل الصالح....
بيعة، تمتد للوطن بالخير والبناء والمواساة، وتستوعب كل المسلمين، بالنفع، والرحمة، والولاء، ولكنها عزيزة، لا نعطيها لمستبد فاجر ظالم، نصبه الغرب والناس مكرهون، أو تقي صالح " أم " قوماً، وهم له كارهون.
نسأل الله العلى العظيم أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعل مصيبتنا في ديننا ولا الدنيا أكبر همنا.
والله أعلم، وعلمه أحكم، وصلى الله على نبي الرحمة وإمام الهدى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.