هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"نَشْلُ العلمِ".. هذا عنوانٌ مُشْكِل! فالعلم أمٌر مشاع، وليس عيناً مِنْ كنز، أو مالاً في حِرْز، حتى يُسرَق! لكن هناك ثلاثة أنواع من النشْل:
1 ـ النوع الأول، هم أولئك الرجال، يتصفحون ما كتب المعاصرون من مؤلفات، وما خطّه الباحثون في المراكز والجامعات، فيلتقطون نوادر الأفكار والسوانح، وخلاصة الفصول والمباحث، ثم "يتعمدون" حجب أصحابها، تارة بتغيير العبارات وإبقاء الفكرة، وتارة بوضع النص دون نسبته لقائله.. "وهو ما سماه بعض الدارسين لهذه الظاهرة أخلاقيًا وقانونيًا بالانتحال الاستبدالي؛ وهذا أسلوب فيه خساسةُ نفسٍ وكوامِنُ كِبْرٍ وحطاطةُ دينٍ؛ غالباً ما يكون أصحابها متظاهرين بالطهرانية وهم في الخفاء ليسوا كذلك بدليل هذا النوع من الكِبْر البحثي والمكْر القَلَمي الذي يمارسونه.. وكان الأولى بالكاتب والباحث من هذا النوع أن يصرّح بأنه سيكتب ملخصا من كتاب كذا أو مهذبًا لبحث فلان فيفوز بالحسنيين .."
2 ـ ونوعُ ثان، أكثر كسلا، فهو لا يقوى على مطالعة الكتب وسَبْرِ أغوارها، ولا التأمل والسهر لتجلية خَفيِّها، وكشف أسرارها؛ فتجده يجالس أهل العلم، ويتتبع جديدهم، ويؤم ساحات البحث فيلتقط النوادر والخلاصات من أفواه الرجال، ثم يُحدِّث بها في المجالس، وكأنها بناتُ أفكاره، وحصادُ جهده وكده. فصاحبنا كَلابسِ ثَوبِ زورٍ، يتَشَبّع بما لم يُعْط... "وهذا مدلس تليساً فكريا لم يعهده أهل الحديث فهو لا يسقط الضعفاء بل يسقط العلماء وهذا حسن من وجه إذ اعتمد الثقة ولم يعتمد المجروح؛ ولكن آفة هؤلاء تظهر في ثلاثة أمور:
فالخطر الأول أن الاختلاس جلي، إذ لا يتناسب القول المدعيه لنفسه مع تكوينه وآلياته، والأخطر منه أنه قد يسيء في عرضه، إذ هو أكبر من مستواه فيجمع بين الانتحال والاختلال، والأشد خطراً هو إن كان من قضايا الرأي التي قد يراجع فيها صاحبها نفسه فيزيد أو ينقص أو يغير القول من أصله بتراجع كلي وتغيير مذهب ؛ فيبقى هذا المنتحل النشّال واقعاً في حيص بيص لا يدري أين يتجه.."
ولهذا السبب نهى العلماء أن يتصدى أحد للتأليف حتى يستكمل أدوات التمكن العلمي، قال الإمام النووي في مقدمة المجموع: "وَلْيحذرْ كلّ الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهّل له، فإنّ ذلك يضرّه في دينه، وعلمه، وعرضه، ولْيحذرْ أيضاً من إخراج تصنيفه من يده، إلا بعد تهذيبه، وترداد نظره فيه وتكريره.." إهـ.
من الخطإ الشنيع قياس ما يقع اليوم من انتحالات علمية ونَشلات أسلوبية وسرقات فكرية ومنهجية على ما كان يقع عند الأقدمين من العلماء الربانيين الحُفّاظ المتمكنين فشتان شتان..
3 ـ ونوع ثالث، يعاملون بعض طلبة العلم معاملة "السُخرة" فيستكتبونهم بحوثا كاملة؛ بنصها، وعزوها، ومطالبها، نظيرَ خِدمةٍ بجاهٍ، أو فُتاتٍ من مال، ثم لا يستنكِف الرجلُ منهم أن يضع اسمه على الكتاب، ورَسْمَه في كل ناد، دون إشارةٍ في الغلاف أو المقدمة لجهود أولئك!
"بل ومن أسوأ هؤلاء، أولئك الذين يسرقون بحوث طلبتهم في الدراسات العليا، وينشرونها بأسمائهم من دون علم الطالب لأجل الحصول على الترقيات.. ومن الخطير ثبوت المواطأة من بعض المجلات المحكمة واللجان الجامعية متسترين على أصدقائهم النشالين للعلاقات الشخصية التي تربط هؤلاء الدكاترة مع المشرفين على النشر..".
4 ـ وهناك ألمعي آخر؛ يتربص بالكادحين من أقرانه، والمغمورين من الحُذّاق الذين لا يعرف الناس أسماءهم، ولا يتابعون إنتاجهم، فهم يعملون في خفاء؛ يلتقطون بذور المعرفة من بطون الكتب، ثم يغرسونها في أرضية من البحث والنظر، ويتعهدونها بالنظائر، ويسقونها بالشواهد، حتى إذا استوت على سوقها، وأينع ثمرها، جاء ذاك النشال فالتقطها قبل أن تغادر فرعها، وزين بها مائدته، "وادعاها لنفسه دون واضح اقتباس ولا صريح عزوٍ.. وزوّق لها تسويقاً بين بني جنسه بعناوين خداعة وتصرفات ماكرة واحتيالات فيسبوكية للترويج في المعارض الدولية.. كي يقال عنه عالم أو مبدع أو جاء ببحث جديد لم يسبق إليه.. وهذا مع الأسف صار ظاهرة عالَمية زاد من وطأتها قلة الناصحين وندرة المكتشفين وتسامح القارئين وتفريط الواعين وتساهل المُقَرّظين...".
ومن الخطإ الشنيع قياس ما يقع اليوم من انتحالات علمية ونَشلات أسلوبية وسرقات فكرية ومنهجية على ما كان يقع عند الأقدمين من العلماء الربانيين الحُفّاظ المتمكنين فشتان شتان..
وقد أجمل هذه النقطة بعض الباحثين فقال: (هناك فارق كبير وجوهري بين واقع التصنيف العلمي قديما بأدواته وقواعده وأعرافه في التوثيق والعزو، وبين الواقع العلمي المعاصر الذي استجدت فيه أعراف أخرى وقواعد مرعية في التوثيق والعزو ساعد عليها انتشار الطباعة وتوافر الكتب وسهولة الوصول إليها واتحاد طبعاتها وترقيمها، وكل هذا يجعل من الاحتجاج بصنيع المتقدمين غير دقيق وهو من قبيل القياس مع الفارق، وإذا كان من المقرر أن العادة محكمة والأعراف مرعية ما لم تخالف الشرع فهي في هذا الباب أولى.
ويزيد الفارق اتساعا بين الواقع القديم والمعاصر أن التأليف الآن يترتب عليه مغانم دنيوية واضحة من نيل الدرجات العلمية، والوظائف ذات الوجاهة والرواتب، وبيع الكتب والتكسب منها وحفظ حقوق الناشرين ومحاكمة من ينتهكها، بينما الغالب على التأليف عند المتقدمين الاحتساب وطلب الثواب من الله، ولم تكن الكتب في ذاتها تجلب لصاحبها مالا من بيعها لعموم الناس، والاستثناء القليل حينما يهديها مؤلفها لأمير أو عظيم فيجازيه على ذلك بمال أو إقطاع أو ولاية مدرسة أو خطابة أو إفتاء أو قضاء أو ما أشبه ذلك فكيف مع هذا الاختلاف يقاس أحد الواقعين على الآخر.)إهـ (أحمد قوشتي)
5 ـ غيرُ مستنكر أن يؤلِّفَ المرءُ بين ما تفرّقَ من خُلاصاتِ ما قرأ، ويجمع بينها، بل هذا أحد مقاصد التأليف والتصنيف، ولا يمكن أن يَنْسِبَ المرء كلَّ ما تعلمه، لمن تَعلمَ منه، ولا يمكن أن يتذكرَ في كل حين، مِنْ أين وردت تلك الفكرةُ، وسَنَحت تلك الإشراقة، هذا أمرٌ لا يستطيعه الناس ولو حرصوا، واشتراطه تكلف وتعسف ! وقد يُقبل أن يستعينَ المؤلف ـ بخاصة المكثرين منهم ـ بمن يُدقق العبارة، أو يُحسِّن الصياغة، أو يُخرِّج الحديث، أو يشير لبعض النُقُول، أو يُذكِّر بشاهد، فلا قطع في ربع دينار!
وقد قال أحمد المقري في كتابه "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض": رأيت بخط بعض الأكابر ما نصه: المقصود بالتأليف سبعة:
ـ شيء لم يسبق إليه فيؤلّف، أو شيء ألِّف ناقصاً فيكمَّل، أو خطأ فيُصَحّح، أو مشكل فيُشرح، أو مطوّل فيُختصر، أو مفترق فيُجتمع، أو منثور فيُرتب.
وقد نظمها بعضهم، فقال:
ألا فاعلمن أنَّ التأليف سبعة ... لكل لبيب في النصيحة خالص
فشرح لإغلاق وتصحيح مخطئ ... وإبداع حبر مقدم غير ناكص
وترتيب منثور وجمع مفرق ... وتقصير تطويل وتتميم ناقص . )إهـ
وهو معنى سبق إليه الإمام ابن حزم في كتابه (التقريب لحدّ المنطق: الرسائل 4/103)، وبسط شرحه العلامة ابن خلدون في (مقدّمته:3/1273) فقال: "ثمّ إنّ الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها. فعددها سبعة:
أوّلها: استنباط العلم بموضوعه، وتقويم أبوابه وفصوله، وتتبع مسائله أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقّق يحرص على إيصالها لغيره، لتعمّ به، فيودع ذلك بالكتابة في الصحف لعلّ المتأخّر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه = تكلّم الشافعيّ أولاً في الأدلّة الشرعية اللفظيّة ولخّصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك مَن بعدهم إلى الأبد.
وثانيها: أن يقف على كلام الأوّلين وتواليفهم، فيجدها مستغلقة على الأفهام، ويفتح الله له فهمها، فيحرص على إبانة ذلك لغيره، مما عساه يستغلق عليه لتحصل الفائدة لمستحقها، وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.
من بركة العلم وشُكره عزوه إلى قائله...ولهذا لاتراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفاً إلا معزوّاً إلى قائله من العلماء، مُبَيِّناً كتابه الذي ذكر فيه
وثالثها: أن يعثر المتأخّر على غلط أوخطأ في كلام المتقدّم، ممّن اشتهر فضله، وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق من ذلك بالبرهان الواضح، الذي لامدخل للشك فيه، ويحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذّر محوه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار وشهرة المؤلّف، ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب، ليقف الناظر على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أوفصول، بحسب انقسام موضوعه، فيقصد المطَّلع على ذلك أن يُتمّم مانقص من تلك المسائل، ليكمل الفنّ بكمال مسائله وفصوله ولايبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتّبة في أبوابها ولامنتظّمة فيقصد المطلع على ذلك أن يرتّبها ويُهذّبها، ويجعل كلّ مسألة في بابها، كما وقع في (المدوّنة) من رواية سُحنون عن ابن القاسم، وفي (العتبية) من رواية العتبي عن أصحاب مالك، فإنّ مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها، فهذّب ابن أبي زيد (المدوّنة)، وبقيت (العتبية) غير مهذّبة، فنجد في كلّ باب مسائل من غيره، واستغنوا بـ (المدوّنة)، وما فعله ابن أبي زيد فيها، والبرادعي فيها.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرّقة من أبوابها في علوم أخرى، فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفنّ، فيفعل ذلك، ويظهر به فنّ ينظمه من جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان: فإنّ عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السَّكَّاكيّ وَجدا مسائل متفرّقة في كتب النحو، وقد جمع منها الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) مسائل كثيرة، تنبّه الناس فيها لموضوع ذلك العلم، وانفراده عن سائر العلوم، فكتُبتْ في ذلك تواليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفنّ البيان، ولقّنها المتأخّرون، فأربوا فيها على كلّ متقدّم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التواليف التي هي من أمّهات الفنون، مطوّلاً مسهباً، فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز، وحذف المتكرّر إنْ وقع، مع الحذر من حذف الضروريّ لئلا يخلّ بمقصد المؤلّف الأوّل.إهـ
قال السيوطيّ في المزهر 1/319: "ومن بركة العلم وشُكره عزوه إلى قائله...ولهذا لاتراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفاً إلا معزوّاً إلى قائله من العلماء، مُبَيِّناً كتابه الذي ذكر فيه".. إهـ
لكن أن يسطو على جهد الآخرين وأفكارهم ومصنفاتهم ثم يتعمّد نسبتها إليه، بالكتابة أو العبارة، فهذا خيانة وضياع أمانة وهو مما ينزع بركة العلم، ويحجب أنوار الحكمة، وفيض العطاء الرباني... وكما قال بعض أهل القرآن: بأن هذا نوع من الاعتداء على سماء الفكر والعلم والإصلاح ولا يجوز للمرء أن يتجاوز قدره إليها إلا بالوحي وأسبابه وأما أهل النشل والاستراق فما أحقهم عياذاً بالله بظاهر قول الله تعالى : (وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) فعلى العلماء أن يبينوا بشُهب البيان خطورة وآفات هذا العدوان ..) إهـ .. والله تعالى أعلم.