مبدئيا ليس من البدهي أن نرى أي علاقة لتونس باندماجات كارتالات النفظ والغاز الدولية المفاجئة والسريعة بسبب انهيار الأسعار مثل ابتلاع شركة "
شيل" لشركة "بريتيش غاز" منذ أيام قليلة. بيد أن هناك استتباعا مباشرا في
تونس إذ إن 60% من الإنتاج المحلي في تونس للغاز تقوم به "بريتيش غاز تونس".
ومثلما تساءل باستغراب بعض المحللين في شؤون النفط، فإنه لم يقع استشارة بعض الدول الأساسية التي ترتهن في إنتاجها المحلي بالشركة البريطانية، مثل تنزانيا وبوليفيا ومن بينها الحكومة التونسية. إذ للأسف تم تجاهل الأخيرة في سياق عقد هذه الصفقة التاريخية. والحقيقة ليس هذا التجاهل أمراً غير متوقع، بل هو في صلب سلوك شركات النفط الأساسية في تونس، ويرجع ذلك إلى تعودها على سلوك "متسامح" مفرط من الحكومة التونسية منذ زمن الدكتاتورية وهيمنة تقاليد الفساد.
مما لا شك فيه أن هناك ضعفاً بالغاً في منظومة الرقابة ومتابعة الشركات المنتجة، ونقص الشفافيّة ووجود عقود غير متكافئة، منذ عهد الدكتاتوريّة، بين الشركات الخاصّة العملاقة والدولة التونسية. برز ذلك بشكل خاص في تقرير دائرة المحاسبات، الذي تم إنجازه بين سنتي 2007 و2010، وبقي في الرفوف ولم تم نشره إلا سنة 2011.
ومن أهمّها عقود الاستغلال في
الغاز الطبيعي حقل "مِيسكار" للغاز الطبيعي الذي تستغله شركة "بريتيش غاز" والموجود في عمق بحر صفاقس، على بعد حوالي 100 كم من الساحل.
الغاز المستخرج من هذا الحقل يستعمل لتوليد حوالي نصف الاستهلاك التونسي للكهرباء، ممّا يمثّل قيمة قريبة من 1500 مليون دينار سنويا. هناك إشكاليّتان بالنسبة لهذا الحقل. الإشكاليّة الأولى هي أنّ الدولة التونسيّة أسندت حقل مِيسكار بنسبة 100% للشركة المستغلّة "بريتيش غاز".
وهذا يبدو مخالف للفصل 13 من الدستور الجديد الذي يضمن حق ملكيّة الشعب للموارد الطبيعيّة الموجودة تحت السيادة التونسيّة. بل إنّه مخالف حتّى لقانون المحروقات لسنة 1999 الذي ينصّ على وجوب مشاركة الدولة التونسيّة في كلّ مشروع إنتاج لمحروقات مستخرجة من أراضيها.
تقرير دائرة المحاسبات كان واضحا في تسجيل إخلالات أساسية من بينها ضعف وتقصير في إدارة التخطيط الاستراتيجي للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، وأيضا إخلالات خطيرة في نظام المعلومات، حيث إنه "اتّضح أن الإدارة العامة للطّاقة غير مرتبطة بالمواقع العالمية المتخصصة في توفير المعطيات المتعلقة بمجال الطّاقة، على غرار موقع PLATT’S المتخصص في مؤشر أسعار المحروقات، مما لا يساعد على حسن متابعة الظّرف الدولي والاطّلاع على التّجارب المقارنة".
ولكن من بين أهم الإخلالات التقصير في تحصيل الجباية البترولية من أهم الحقول أي "ميسكار". إذ "بلغ حجم الأداءات بالنسبة لامتياز ميسكار نسبة 31 % من مجموع الأداءات البترولية، في حين أنها تحتكر حوالي 45 % من حجم المداخيل"، حسب تقرير دائرة المحاسبات.
ويفسر التقرير هذا التقصير: "بعدم ممارسة المتدخلين في مجال المحروقات أي رقابة على التّصرف على مستوى هذا الامتياز، حيث تستغلّ شركة "
بريتش غاز"حصريا هذا الامتياز، تبعاً لتخلّي المؤسسة التّونسية للأنشطة البترولية عن حقّها في المشاركة فيه، معلّلة ذلك بضعف مردوديته دون اللّجوء إلى خبرات من خارج المؤسسة لتدعيم هذا الرأي، علماً أن النتائج الفعلية لهذا الامتياز أثبتت أنه مثّل من حيث الكميات المنتجة أهم امتياز غازي تمّ اكتشافه بالبلاد التّونسية، وسجلّ إلى موفّى سنة 2009 أرباحا ناهزت 587 مليون دينار".
إزاء هذه الإخلالات في مراقبة استغلال "بريتش غاز" لحقل "ميسكار" والإخلالات خاصة في تحصيل الجباية البترولية مثلما أكد تقرير دائرة المحاسبات، حرصت بعض القوى السياسية من بينها حزب المؤتمر في المجلس الوطني التأسيسي على إدراج مستوى رقابة دستوري على العقود في دستور جانفي 2014، من خلال الفصل 13 الذي ينص على أن: "الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي، تمارس الدولة السيادة عليها باسمه".
تُعرض عقود الاستثمار المتعلقة بها على اللجنة المختصة بمجلس نواب الشعب. وتُعرض الاتفاقيات التي تبرم في شأنها على المجلس للموافقة". وشرعت لجنة الطاقة مباشرة إثر ذلك وفي شهري مارس وأيريل 2014 بمراقبة عملية تجديد العقود، الذي تم فيها الكشف بوضوح على إخلالات مهمة في تجديد العقود بما في ذلك عقد "بريتش غاز".
وأدى ذلك إلى تجميد خمسة عقود ردة فعل الحكومة، التي يرأسها وزير صناعتها مسؤولين سابقين كبيرين في شركتين دوليتين للنفط، كان الاستنجاد الفوري بالمحكمة الإدارية التي أصدرت حكماً يقضي بتعليق الفصل 13 حتى تغيير القوانين. وهو ما سمح لحكومة التكنوقراط وفي غمرة الانتخابات بتمديد عدد من العقود دون تمريرها على مجلس نواب الشعب الجديد، خاصة أنه تم تعطيل افتتاح المجلس في سياق تهيئة الساحة السياسية لتحالفات تسمح بدعم أغلبية من الأحزاب لمرشح الحزب الأغلبي، أي الرئيس الحالي الباجي قائد
السبسي.
يجب أن أختم هنا بقطاع توأم أي الطاقات المتجددة، إذ هنا أيضا نجد مثالا واضحا على حرص الإدارة على تجنب تمرير العقود في هذا القطاع الواعد على الرقابة. ففي الوقت الذي أقرت فيه هيئة مراقبة دستورية القوانين ضرورة عرض عقود الطاقة المتجددة، وفقاً للفصل 13 على الرقابة البرلمانية، أكد المدير العام للطاقة بوزارة الصناعة على" وجود غموض في تحديد مفهوم الثروات الطبيعية الواردة بالفصل 13 من الدستور، حيث أكد أن الطاقات المتجددة لا تندرج ضمن الثروات الطبيعية".
عندما لا ترى إدارة الطاقة علاقة بين الطاقات المتجددة والثورات الطبيعية فقط لتجنب الرقابة على العقود، فإننا بذلك إزاء إشكال كبير لم يعد فيه من الواضح أي المصالح تمثل إدارة الدولة، المصلحة العامة أم المعنيين بالعقود، مما يزيد الأمر سوءا أن نائب رئيس لجنة الطاقة في مجلس نواب الشعب، وهو نائب يتبع الحزب الأغلبي يرفض الرقابة البرلمانية على العقود، ولا يجب أن يكون ذلك أمراً مصادفا، فهو أحد أهم المستثمرين المحليين الخواص في هذا القطاع.
يمكن أن يبدو الصراع السياسي في تونس استقطابا وتقارباً بين إسلاميين وعلمانيين، خاصة على خلفية تصاعد الإرهاب. هذا المشهد السياسي المهيمن هو أوضح أشكال الوعي المزيف المهيمن في تونس؛ إذ إن الإسلاميين والعلمانيين يتصارعان أو يتقاربان، لكن في النهاية يتفقان على تجاهل وتهميش القضايا الرئيسية المتعلقة بالشفافية والاستثمار في قطاع استراتيجي، مثل الطاقة على أساس المصلحة الوطنية العليا.
الانتخابات الأخيرة تحددت على أساس الاستقطاب الإسلامي العلماني، لتفرز قيادة سياسية يمنية ليبرالية تابعة على رأس الدولة. هناك حاجة لسياسة من نوع جديد تجعل القضايا الديمقراطية الاجتماعية على رأس الأجندة السياسية، وتحرر الوعي الزائف السائد.