بتاريخ السادس عشر من شهر آذار/ مارس 2003، كانت الناشطة الأمريكية اليهودية
راشيل كوري ابنة الثالثة والعشرين ربيعاً، ضحية عملية اغتيال متعمد وهي تحاول مع مجموعة من النشطاء الدوليين منع جرافة تابعة للاحتلال الإسرائيلي، من أن تتقدم باتجاه رفح جنوب قطاع غزة بهدف هدم منازل للفلسطينيين، وقد برَّأت محكمة
الاحتلال الجيش و"دولة إسرائيل" من عملية الاغتيال بعد أن رفعت عائلة كوري دعوى قضائية مدنية في مدينة حيفا، اتهمت فيها الاحتلال بتعمد قتل ابنتها، لا بل ألزمت المحكمة عائلة كوري بدفع تكاليف المحاكمة..!!
على الرغم من تأكيد شهود العيان الدوليين الذين كانوا مع كوري بعد أن سحقتها جرافة الاحتلال، بأنه كان بإمكان السائق أن يتجنب دهس كوري إلا أنه قد استمر في التقدم غير آبه بوجود شابة تتصدى للاحتلال بطريقة مدنية سلميَّة ليس لها سوى كوفيتها وهتافاتها ومبادئها، لتواجه به جبروت الاحتلال واعتداءاته المستمرة على
الفلسطينيين في "أرض مفتوحة وترتدي سترة بالغة الوضوح"، إلا أن تلك الشهادات لم تلق آذان صاغية في محكمة الاحتلال..!!
هي ليست المرة الأولى التي يُنصِّب فيها الاحتلال نفسه بمكان الخصم والحكم، فقد فعلها في الكثير من القضايا، وفي كل مرة يجد لنفسه تبريراً وطريقة جديدة للهروب من أي استحقاقات قضائية، ليس فقط ليتجنب أية تداعيات أو ملاحقات قضائية، وإنما الأهم بالنسبة إليه ألا تتأثر الرؤية الاستراتيجية لهذا الكيان، بأنه فوق المساءلة وفوق القانون، وألا يتم تشويه صورة الاحتلال أمام المجتمع الدولي "البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة العربية"، ولهذه الغاية يوظِّف الاحتلال جيشاً من الخبراء والخبثاء القانونيين الذين يعملون على تزييف الحقائق ويتلاعبون على القانون بما يخدم الكيان، وهذا لم يكن ليتحقق دون التغطية والحماية والمؤازرة والدعم الدولي من قبل الحلفاء الاستراتيجيين، وفي المقدمة منهم الإدارة الأمريكية التي فشلت دبلوماسيتها ونفوذها في مساندة كوري، لا بل ألقت باللوم على الضحية..!!
مع مرور عشرات السنوات من الانتهاكات الممنهجة للاحتلال بحق الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من العرب وغير العرب، تحولت سياسة الإفلات من العقاب إلى ثقافة ملازمة للاحتلال، ولا تنفك المنظمات الدولية المهتمة بملاحقة مرتكبي جرائم الحرب كمنظمة العفو الدولية البريطانية وهيومن رايتس ووتش الأميركية وغيرها.. من الدعوات لملاحقة المجرمين وسوقهم إلى العدالة دون أن يكون هناك تمييز بين مجرم وآخر..!!
بعد توقيع دولة فلسطين العضو المراقب في الأمم المتحدة على نظام الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، نعتقد أنه من الضرورة أن يكون ملف اغتيال الناشطة الأمريكية راشيل كوري من ضمن الملفات التي يجري إعدادها وتقديمها للمحكمة، فمحاكمة القاتل وسوقه إلى العدالة يعتبر رد اعتبار ليس فقط للشابة التي قُتلت ظلماً، وإنما كذلك لعائلتها وللشعب الأمريكي المتضامن مع فلسطين، وكذلك لكل أحرار العالم وللشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، وكذلك يعتبر انتصاراً للعدالة وللإنسانية ورادعاً لثقافة الظلم والإفلات من العقاب التي يمارسها الاحتلال ليل نهار بحق الفلسطينيين، ومؤشراً استراتيجياً على تراجع المشروع الصهيوني المشوَّه، وغير المتجانس مع منطقتنا.