على خلاف مقررات "
المنظومة الأصولية" التي أسسها ووضع قواعدها الإمام محمد بن إدريس
الشافعي في كتابه التأسيسي "الرسالة"، ينزع "
القرآنيون" إلى اعتبار القرآن الكريم مصدر
التشريع الإسلامي الوحيد، ما يعني إسقاطهم لمصادر التشريع الأخرى، وفي مقدمتها
السنة النبوية.
يقف الباحث في الجذور التاريخية لهذا التوجه، على موقف قديم للخوارج تمثل في رفضهم لحد رجم الزاني المحصن، لأنه ثبت عن طريق السنة، ولم يرد ذكره في القرآن الذي بين أيدينا، ما حملهم على رفضه وعدم الأخذ به، بحسب شروحات العلماء كابن عبد البر والعيني وغيرهم.
ويُظهر التتبع التاريخي حالات كان يتبنى فيها أصحابها الدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن الكريم كمصدر تشريعي وحيد في الإسلام، كما أشار إلى ذلك السيوطي في سبب تأليفه لرسالته "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة"، بقوله إن "قاضيا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية، والأحاديث المروية، لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة.."، لافتا إلى أن هذا القول "كان دارسا منذ أزمان.. وأنه فاح ريحه في زمانه..".
ارتبط مذهب "القرآنيين" في واقعنا المعاصر بأستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور المصري أحمد صبحي منصور، الذي تصدر الدعوة إلى هذا المذهب في مصر. وبسبب إنكاره للسنة النبوية القولية، فصل من عمله في جامعة الأزهر في ثمانينيات القرن الماضي، ثم سافر إلى أمريكا ليستقر بها. له عدة كتب من أشهرها كتابه "القرآن وكفى، وينشر مقالاته ومقالات قرآنيين آخرين على موقعه الإلكتروني "أهل القرآن".
يركز القرآنيون في مقالاتهم وحوارتهم على اعتبار القرآن الكريم هو الحجة في دين الله، ولا حاجة للمسلمين إلى مصادر أخرى معه، لكنهم ينقسمون إلى اتجاهات مختلفة، فمنهم من يأخذ بالتواتر العملي الذي تناقله المسلمون عبر أجيالهم (مثل الصلاة) كاتجاه أحمد صبحي منصور، واتجاه آخر يرفض ذلك مكتفيا بالقرآن وحده، كاتجاه المغربي بنور صالح الذي يرى أن الصلاة المفروضة هي ثلاث صلوات فقط بحسب فهم أتباع هذا الاتجاه لآيات الكتاب العزيز، وإسقاطهم للسنة النبوية بالكلية.
تعتبر دعاوى القرآنيين صادمة لعامة المسلمين، الذين تشكل وعيهم على اعتبار السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، ما يحملهم على رفض دعاوى القرآنيين واستنكارها بشدة، والمسارعة إلى رميهم بالكفر لإنكارهم أمرا معلوما من الدين بالضرورة. لكن على الرغم من غرابة مقولات القرآنيين، ومصادمتها لما عليه جماهير المسلمين، فإن ثمة تمددا لحالتهم في أوساط الشباب الجامعي والمثقفين، بحسب باحثين مهتمين بالظاهرة.
فما مدى انتشار الظاهرة وتمددها في أوساط الشباب والمثقفين؟ وما الذي يدفعهم إلى تبني مقولات القرآنيين؟ وهل ثمة أسباب وجيهة تقف وراء ذلك التحول؟ وما موقف علماء الدين وأساتذة الشريعة من القرآنيين ومقولاتهم؟ وكيف يتعاطون عمليا مع هذه الدعاوى؟ وكيف يواجهون دعاتها وحامليها؟
لكل هذا ركبت سفينة "القرآنيين" مع أن كثيرا من القرآنيين يتحاشون التصريح بما يؤمنون به، خوفا من تبعات ذلك في محيطهم الذي يعيشون فيه، إلا أن الناشط القرآني الأردني أحمد يوسف جباعته لم يمانع من الظهور باسمه الحقيقي، ليحكي قصة تحوله إلى "القرآنيين" بعد أن كان يؤمن بحجية السنة النبوية، ويأخذ بالأحاديث المروية في الصحاح وغيرها.
بدأت رحلة أحمد بعد قراءته لصحاح السنة قراءة متفحصة ومتأنية، التي وجدها - بحسب قوله - تتناقض فيما بينها وتصطدم مع بداهات المنطق ومع صريح كتاب الله في كثير من المواضع، لكنه كما روى لـ"عربي21"، لم يجد البديل حينذاك، وكان يكتفي بقراءة تبريرات وتوفيقات العلماء لتلك التناقضات، مع حسرة شديدة تنتابه جراء ذلك.
يتابع الناشط القرآني حديثه قائلا: في يوم من الأيام وقعت على كتاب "دفاعا عن السنة المطهرة.. ليس كل ما في الصحيحين صحيح" لمؤلفه محمد مأمون رشيد من عمان، وكانت أول لحظة في حياتي أكتشف فيها أنه لا يشترط في صحاح السنة أن تكون كلها صحيحة، بعدها انطلقت رحلتي مع التدبر القرآني دون الاتكاء على كل هذا الموروث البشري، على حد قوله.
يتحدث أحمد جباعته عن رؤاه وقناعاته الجديدة التي اكتسبها من تدبره الذاتي للقرآن، والتي منها أن القرآن تبيان لكل شيء، وأن أمر الله لنا بطاعة سيدنا محمد اقترن بلفظة "الرسول" دوما ولم يقترن بلفظة "النبي" وهي إشارة واضحة إلى أننا مأمورون بطاعة الرسالة.
وبيّن ما يستفاد من ذكره كنبي وفق فهمه الجديد بقوله: أما سيدنا محمد في مقامه كنبي فقد كان معلما ومربيا وقائدا، لكن اجتهاداته الخاصة خارج الوحي ليست تشريعا ملزما وأبديا (القرآنيون يؤمنون بأن الوحي محصور في القرآن)، فإعفاء اللحية وتقصير الثوب والنهي عن النمص والوشم، كلها توجيهات ضمن العرف السائد وقتها، أي "وأمر بالعرف".
لكن كيف وجد القرآنيين بعد أن اقترب منهم وخالطهم؟ ما الذي يجتمعون عليه؟ وهل ثمة ما يختلفون فيه؟ بحسب الناشط القرآني أحمد، فإن الجامع المشترك الذي يجمع القرآنيين هو مصدرية التشريع، فهم متفقون على أن الحلال والحرام بيد العزيز القهار مسطورا في كتابه الكريم. لذا، فإن رجم الزاني مثلا مرفوض تلقائيا عند القرآنيين، وكذلك ما يخص العقيدة. فكل ما لم يرد في كتاب الله فهو مرفوض، مثل عذاب القبر والأعور الدجال والمهدي، وغير ذلك.
ولفت إلى أن القرآنيين يختلفون في التفاصيل والاتجاهات كثيرا، عازيا ذلك الاختلاف إلى تنوع فهم النص القرآني، خاصة أن فكرة تدبر القرآن دون الاستناد إلى الموروث نهائيا فكرة جديدة، وتحتاج إلى وقت طويل كي تتلاقح الأفكار وتتفاعل، وصولا إلى حالة النضج والاستقرار.
أسباب تمدد القرآنيين
على الرغم من مصادمة مقولات القرآنيين لما عليه جماهير المسلمين من اعتبار السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فإن ظاهرة "القرآنيين" تتمدد في أوساط المثقفين بشكل ملفت، بحسب الأكاديمي الأردني الباحث في الفلسفة وأصول الدين الدكتور أسامة عكنان.
أرجع عكنان ذلك التمدد إلى الأسباب التالية: أولا: الفشل التاريخي للموروث الديني في خلق نوع من التوازن المعرفي بين القرآن والسنة، بحيث لم يتم تحديد فوارق حقيقية بين هذين المصدرين تنعكس على التشريع، ما جعل المشكلات التي تعاني منها السنة تصحيحا وتضعيفا تنعكس على القرآن ذاته لجهة فهمه واستنباط الأحكام منه، بسبب التداخل بين المصدرين في التشريع حسب الفقه السائد، وفي الفهم وتخليق المعارف.
وأضاف عكنان في حديثه لـ"عربي 21" قائلا: السبب الثاني يكمن في عجز السنة عن تلبية طموح الأجيال الشابة المعاصرة فيما يتعلق بقدرتها على الإجابة عن كثير من التساؤلات العالقة، وعرقلتها لأي فهم متطور للقرآن الكريم بسبب المشكلات المعرفية العميقة والمستفحلة فيها.
أما السبب الثالث برأي الباحث في الفلسفة وأصول الدين، فيعود إلى التخوف من التراخي في التعامل مع قداسة القرآن الكريم ومرجعيته إذا استمر ربطه فهما وتفسيرا بالسنة بكل سلبياتها التي تعاني منها، ما جعل إنقاذه من هذه المخاطر يتخذ شكل إنقاذه من قيود السنة بالدرجة الأولى.
في السياق ذاته، اتفق الباحث الإسلامي محمد البيطار مع الدكتور عكنان على أن مقولات القرآنيين تزداد انتشارا، عازيا أسباب ذلك إلى أن كثيرا من الأحاديث المروية والمنسوبة إلى الرسول لا يمكن تقبلها من جهة النظر العقلي، مع مصادمتها للمعارف العصرية، فجاءت ظاهرة القرآنيين كردة فعل احتجاجية على ذلك كله.
وحول موقفه من مقولات القرآنيين، أبدى البيطار موافقته لهم في حصرهم للوحي في القرآن فقط، مخالفا إياها بأن الرسول عليه السلام كان يجتهد في إطار النص القرآني بلا وحي يتنزل عليه خارج القرآن. وفي حالة عدم توافق اجتهاداته مع مراد الله يتنزل عليه الوحي القرآني لتصويبه.
وجوابا عن سؤال "عربي21" حول موقفه من السنة النبوية بعد مروره بمرحلة السلفية واقترابه من أطروحات القرآنيين، أوضح البيطار أن الرسول لا يشرع أحكام جديدة لا أصل لها في القرآن، وكل ما قاله إنما هو اجتهاد في إطار النص القرآني، وهو ملزم لأهل زمانه، غير ملزم للمسلمين من بعده، ومن لا يقبل به لا يكون آثما.
موقف علماء الدين من القرآنيين
لكن كيف ينظر علماء الدين وأساتذة الشريعة إلى القرآنيين؟ وما حكم من ينكر حجية السنة النبوية ويرى أن الحجة في القرآن وحده؟ أكد الدكتور عمر البطوش المتخصص في الشريعة والدراسات الإسلامية أن السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، والأدلة متضافرة على ذلك من القرآن، الآمرة بوجوب طاعة الرسول والأخذ بما أتانا به، والرد إليه في حال الاختلاف..
ورفض الدكتور البطوش منهج القرآنيين في إسقاطهم للسنة النبوية، لأنه مخالف للقرآن مخالفة صريحة أولا، والتي تفضي كذلك إلى تعطيل الشرائع الإسلامية كمباني الإسلام العظيمة (الصلاة والزكاة والصوم والحج)، فمن أين يأتي المسلمون بتفاصيل هذه العبادات إن اقتصروا على القرآن الكريم فقط وأسقطوا ما ورد في السنة بشأنها؟
وحول موقف القرآنيين من الأحاديث النبوية القلقة والمشكلة والتي دفعتهم كردة فعل إلى رفض السنة بالكلية، أوضح الدكتور البطوش لـ"عربي21" أن علماء الحديث ونقاده قاموا بجهود كبيرة وعظيمة في نقد الأحاديث ووضعوا قواعد دقيقة لممارسة ذلك النقد، ونقدهم يشمل الأسانيد والمتون، وباب النقد مفتوح لكل من يحسن ذلك ويمتلك أدواته العلمية ويتقنها.
من جهته، لفت الدكتور أسامة نمر أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية إلى أن ظاهرة القرآنيين تزداد انتشارا وتمددا، منتقدا بشدة مسالك بعض العلماء الشرعيين في امتناعهم عن مناقشة إشكالات حديثية كثيرة، وإحجامهم عن معالجة قضايا شرعية قلقة بجرأة وإقدام، والتي هي من أسباب تمدد ظاهرة القرآنيين وانتشار مقولاتهم.
وأوضح الدكتور نمر أن ثمة إشكالات حقيقية في بعض الأحاديت والروايات، وقد ألف العلماء كتبا متخصصة في ذلك، ككتاب "مشكل الحديث" لابن فورك وغيره، منبها إلى أن من واجب العلماء محاورة القرآنيين، ومجالستهم باحترام والاستماع إليهم بلا تجريح، والاجتهاد في شرح نظرية النقد عند المحدثين لهم حتى يتعرفوا على قواعد النقد الحديثي وأصوله.
وردا على سؤال "عربي21" حول موقفه من مقولات القرآنيين، اعتبر الدكتور نمر قولهم بأن الحجة في الإسلام هي القرآن فقط، يصطدم مع القرآن ذاته، لأنه أوجب طاعة الرسول طاعة عامة في كل شؤون الدين، ولم يقصر ذلك على تبليغه القرآن، وقد قام الرسول ببيان كثير من شرائع الإسلام وأركانه، إما بقوله أو عمله. فإذا ما أسقطنا السنة النبوية ولم نعتبرها حجة كما يقول القرآنيون، فمن أين نأتي بتفاصيل الأوامر المجملة في القرآن؟
ظاهرة القرآنيين تضع العلماء الشرعيين أمام تحديات من لون آخر، فالقرآنيون ينطلقون في فكرهم وحركتهم من حرصهم على القرآن وتعظيمهم له، فكان لزاما على العلماء استيعاب مقولات القرآنيين، وتفهم اعتراضاتهم واستشكالاتهم، ومن ثم محاورتهم بأدلة قرآنية، تفند استدلالاتهم، وتفكك مقولاتهم من داخل المنظومة القرآنية التي جعلت البيان إما بالنص القرآني مباشرة أو بالإحالة على مصادر أخرى على رأسها السنة النبوية.