(1)
في الدراسة التي تم الإشارة إلى بعض ما ورد فيها بالمقال السابق كسن التجنيد وأعضاء الإدارات والكنيست العسكريين والسيطرة على وسائل الإعلام، ظهر حجم توغل العسكر في قطاعات الدولة المغتصِبة، إلا أن الأكثر نسفا لصورة الديمقراطية والمدنية المزعومتين ما تعلق بعسكرة أبرز منصب سياسي لديهم، فبالإضافة لما بيّنته الدراسة تعاقب على رئاسة الوزراء 12 شخصا خلال 18 ولاية منهم اثنان فقط لا يحملان خلفية عسكرية "كبيرة" جولدا مائير وإيهود أولمرت الذي خدم بالجيش بين 1963 و1971 وكلاهما حققا إخفاقا عسكريا كبيرا الأمر الذي استدعى النقاش هناك حول أهمية أو ضرورة وجود عسكري في أعلى منصب مدني بالبلاد!
تلك النقاشات صاغت صورة تقول: إن
العسكرة لم تعد مجرد أمر موجود في المجتمع وطبقته السياسية، بل مطلبا تدور حوله النقاشات لأجل ديمومته دون خروج عن الإطار كما حدث "مرتين فقط" على مدار الستين عاما.
(2)
إشكال العلاقات المدنية - العسكرية في الدولة الصهيوينة يتجاوز سيطرة الأفراد ذوي الخلفية العسكرية ليشمل سيطرة المؤسسة العسكرية ككل وتهميش الرقابة المدنية عليها، فمثلا تحدث أحد رؤساء اللجنة المالية بالكنيست منذ عقود عن المخصصات المالية للدفاع قائلا: "إن هذا يتم بالأساس عندما تقول لنا هيئة الأركان إن هناك حاجة إلى إضافة صواريخ أو دبابات، لأننا لا نفهم هذه المسألة) واستمرت الفكرة مع خلفائه، فمناقشات الميزانية المتعلقة بالجانب الأمني -بما فيه ارتباطه بالوزارات الأخرى- لا مجرد التسليح، تخضع لمناقشة عدد محدود جدا داخل
الكنيست، ولا يتم مناقشتها بالتفصيل وفلسفة المناقشة خاضعة لكون "المدنيين" غير مقدرين أحيانا لخطورةالتحديات، وهذا إن كان مفهوما من الجانب العسكري، فالغريب وجود قبول بل وتبرير له من الجانب السياسي المدني المنتخب الذي يفترض فيه أمانته على مقدرات أمته.
أضف لحال الرقابة سيطرة المؤسسة العسكرية على مدخلات المعلومات مما يجعلها متفردة بالقرار، وقد سرب أحد وزراء المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية "الكابينيت" للإعلام رسالة مفادها "الجيش يسعى لبث الخوف والرعب فينا" وكان ذلك أثناء المداولات التي سبقت الانسحاب من لبنان سنة 2000، فبرز حينها التساؤل عن كون الجيش وحده جهة تقييم الموقف، وأين الجهات المدنية؟ فإذا كان هو المحتكر للمعلومات فكيف يمكن وضع تقييم لموقف دون الاعتماد عليه وحده، وأين وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الذي ظل منذ إنشائه عام 1999 لا يقوم بدور حقيقي مما كان مخططا له.
لم تقتصر السيطرة على وقائع محدودة، بل صار التخطيط الاستراتيجي - السياسي خاضعا للمؤسسة العسكرية، ما يفسر طغيان الجانب الأمني في اعتبارات السياسة (حتى الخارجية منها) ورفض المسار الدبلوماسي، وربما يكون موشيه ديان وزير الدفاع الأسبق أفضل من عبر عن هذه الفلسفة بقوله: (الأمم الصغيرة ليس لها سياسة خارجية، وإنما سياسة دفاعية فقط).
كلمات وزير الدفاع الأسبق هذه ربما تفسر التوجه "الإسرائيلي" نحو اتخاذ الضربات العسكرية كحل لأزمات تواجهها، كما حدث بالعراق في الثمانينيات وسوريا والسودان مؤخرا وما يحدث باستمرار على الجنوب اللبناني والفلسطيني، وكذلك التحريض "الإسرائيلي" الدائم للمجتمع الغربي على توجيه ضربة عسكرية استباقية لإيران.
(3)
مع توالي الأزمات الاقتصادية والأمنية، لا يبدو أن الديمقراطية الصهيونية المزعومة في "إسرائيل" تواكب مثيلاتها في الغرب، بل وصل الأمر لخروج أصوات من المعسكر الرافض لعسكرة دولتهم تقول، إن هذا الوضع سيء إلا أنه أهون الشرين؛ فالعسكريون هم الذين أنقذوا البلاد، وكذلك نحن في حالة طوارئ.
قد لا أستغرب تلك الكلمات على فداحتها ومخالفتها لقيم الديمقراطية المزعومة، فقد سمعتها في بلادنا كثيرا، وربما أثرنا في هذا الجار البغيض أخيرا.