تثور التساؤلات مجدداًً عن مآلات التسخين الراهن في القدس، وهل سيفضي الموقف إلى انتفاضة
فلسطينية جديدة.
تنقدح الشرارة في النموذج التقليدي، ثمّ تهبّ فئات أو شرائح أو مناطق معيّنة، قبل أن تعمّ الهبّة وتتوسّع متحوِّلة إلى انتفاضة. لكنّ الهبّة قد تسلك في تطوّرها مساراً مغايراً.
ويبقى نموذج الحدث الصادم أوفر الاحتمالات التي يسهل توقّعها لاندلاع الانتفاضة. فالهبّات الجماهيرية تنتظر ما يقدح شرارتها، وغالباً ما يكون ذلك حدثاً مفاجئاً تنتفض له أبدان الجماهير. وإذا كان في الاحتلال وضغوطه على المجتمع الفلسطيني ما يكفي للتحريض على الثورة، فإنّ الحدث الصادم يعمل فجأة كصاعق تفجير. وهكذا تأتي الهبّات الجماهيرية غالباً على شكل نوبة غضب عارمة، تتفشى في الجماهير فتأخذ شكل هبّة قابلة لأن تتطوّر إلى انتفاضة أو ثورة.
يختلف الحدث الصادم في مفعوله عن تأثير الواقع الضاغط. على أنّ ما يجري في القدس هو سلسلة متفاقمة من الضغوط المسلّطة على المدينة والمقدسيين والمسجد الأقصى بالأساس، لكنّ الاحتلال يواصل فرض شروط معادلة تستحثّ التكيّف مع التحوّلات الضاغطة التي يفرضها يوماً بعد يوم. فمثلاً؛ تحوّل اقتحام المسجد الأقصى مرّة أو مرّتين من كلّ أسبوع إلى حدث اعتيادي مألوف. ومن الواضح أنّ الاحتلال يواصل فرض برنامجه الصارم في القدس مع تحاشي الاقتراب من صواعق التفجير التي ستشعل المنطقة، فيحرص على انضباط الأمور بعيداً عن التطوّرات الاستثنائية أو المجازر الجماعية. لكنّ ذلك لا يسري على سلوك الجماعات
الإسرائيلية المتشددة التي تحظى بالرعاية والإسناد، فهي تلجأ إلى مبادرات متشنِّجة قد تشعل الفتائل قبل الأوان، كما فعلت مع الفتى أبو خضير أو على نحو ما تقوم به عصابات "جباية الثمن".
ستكون القدس حاضرة في أي هبّة جماهيرية فلسطينية قادمة، وقد تنقدح الشرارة من المسجد الأقصى أو من وجهة أخرى غير محسوبة؛ كالأسرى مثلاً، أو من حول المعابر والحواجز، أو حتى في الداخل المحتل سنة 1948. وفي النهاية تندلع الثورات عادة من حيث لا يحتسب أحد.
ثمة مسألة جوهرية في هذا السياق. فإذا قدّر مجتمع معيّن حاجته للثورة؛ فهل يتوجّب عليه انتظار وقوع كارثة مذهلة أو مذبحة مروِّعة كي تنقدح شرارة غضبه مشعلة انتفاضة في طريقها؟ هناك على الأرجح سبُل أقصر وأقلّ كلفة، تأتي مثلاً عبر انتهاج مسلك "إمطار الغمام"، أي صناعة حدث عارم أو تطوير موقف جماهيري، فضلاً عن القرار بخوض التصعيد الشامل.
ليس من القسط أن يُطلَب من الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس أن تصنع معادلة التحوّل دفعة واحدة، خاصة ضمن ظروفها المعقدة الراهنة. ولذا فإنّ تكتيكات الخطوة خطوة، والتوسّع المرحلي في برنامج مواجهة جماهيرية مع الاحتلال، تشكِّل خيارات واقعية وعملية.
بموجب ذلك يمكن أن تتبلور الانتفاضة من رحم فعل جماهيري ذي برنامج عمل مقتضب. قد يأتي ذلك بأسلوب التسخين التدريجي، الذي يُشيع سلوك الانتفاضة مرحلياً في المجتمع، ومن ذلك مثلاً التوجّه إلى الضغط المتزايد على مصالح الاحتلال في الضفة، ومنها الشبكات الاقتصادية والتجارية، وخطوط إمداد الاستيطان، والخدمات الاستخبارية التي تقدمها السلطة الفلسطينية ضمن مفهوم التنسيق الأمني.
إنّ تصريف حالة الغضب الجماهيري ضمن مسارات عملية ضاغطة ومؤثرة، قابل لأن يصنع انتفاضة لن تكون كسابقاتها، بل ستنبع من الواقع وستتحفّز للتغيير ضمن برنامج عمل فعّال ومنظور النتائج في عيون الجماهير.
وفي مواجهة مأزق المجتمع الفلسطيني مع النظام الأمني القائم على التنسيق مع الاحتلال؛ يمكن اللجوء إلى خيارات التحرّك الجماهيري الرامية إلى كبح هذا النظام سعياً إلى تعطيله أو تحييده. إنّ وضع هذا النظام في دائرة المساءلة الشعبية إجراء لا غنى عنه في هذا الصدد، وبوسع الجماهير التعبير عن سخطها عليه من خلال قائمة ممتدة من الخيارات المدنية التي ستشيع ثقافة الاعتراض على هذا النهج. يمكن تصوّر قليل من الشبّان والشابات وهم يعطِّلِّون حركة السير في قلب رام الله عبر الارتماء أرضاَ ضد التنسيق الأمني مع الاحتلال، كما قد ينجح نشاط مفاجئ في صبيحة واحدة في مدن متعددة ليصنع فارقاً في استشعار المجتمع قدرته على تعطيل مصالح مرتبطة بالاحتلال.
هناك محفزات للهبّات الشعبية، يتصدّرها سقوط الشهداء الذي يُلهِب الغضب، أمّا مسيرات التشييع ومجالس العزاء فستتحوّل إلى فرص لتمرير روح التحدِّي.
وسيكون التعاضد التضامني عبر العالم مع الحدث الجماهيري في فلسطين، من بواعث التشجيع على مواصلة التجربة وتطويرها. ولن يقف الفعل الفلسطيني في الشتات مكتوف اليدين، بل سيسعى إلى حمل رسالة الانتفاضة بما يتناسب مع خصوصيات الانتشار. أمّا المواكبة الإعلامية فقد تنجح في وضع الحدث الجماهيري الصاعد في بؤرة الاهتمام، وقد بات هذا متحققاً كما لم يحدث من قبل من خلال البثّ المباشر وزمن الصورة وتفاعل الشبكات الاجتماعية.
لكنّ الجماهير تتصرّف أحياناً في اتجاهات غير محسوبة؛ منها تلك الهبّة الجماهيرية التي اندلعت في بواكير صيف 2014، لكنها سرعان ما انطفأت بتأثيرات عدّة؛ كان منها انصراف مركز الحدث صوب ميدان المواجهة العسكرية المباشرة في قطاع غزة. لعلّ الجماهير لم تستشعر يومها أنه أوان التحرّكات الشعبية التي تحمل اللافتات وتمضي بالهتافات وتشعل إطارات السيارات، رغم أنّ استمرار الهبّة كان سيفاقم المأزق الذي واجهه الاحتلال في الصيف الملتهب.
بقي الحسّ الشعبي الفلسطيني مصطفاً مع المقاومة، وهو ما تؤكده الشواهد واستطلاعات الرأي. وبهذا المعنى؛ فإنّ هناك فرصاً لنبش بواعث التفاعل الجماهيري الفلسطيني العابر للألوان السياسية، بما يحرِّض على هبّة شعبية عارمة ضد الاحتلال. لكنّ الأسئلة تبقى قائمة عن الوجهة؛ أهي انتفاضة جماهيرية، أم انتفاضة مسلّحة، أم نشاط مقاوم من نمط جديد، أم أعمال رمزية تحمل لافتة المقاومة الشعبية، أم نمط متمرد على التوقعات جميعها؟