لا تبدو
فلسطين المحتلة اليوم هي "دولة
اليهود" التي نادى بها تيودور هرتسل، أو هكذا على الأقل بالنسبة لقطاعات من الشباب
الإسرائيلي الذين أدركوا أنهم مسعاهم لتحقيق الذات متاح في بقاع بعيدة. فبعد اثني عشر عقداً من انطلاق المشروع الصهيوني من
حيز الفكرة إلى نطاق التنفيذ؛ يرفع شبان إسرائيليون أصواتهم بالدعوة إلى مغادرة فلسطين والانطلاق إلى العالم.
كان تهجير اليهود إلى فلسطين عملية شاقة، فلم تنجح لولا الشعور بالتهديد في البيئات الأصلية ووفرة الإغراءات الجاذبة إلى "أرض اللبن والعسل". لكنّ العودة إلى
أوروبا تبدو اليوم رحلة يسيرة لا تستغرق سوى ساعات قليلة في الأجواء مع تسهيلات تمنحها جوازات السفر الأوروبية التي يحملها كثير من الإسرائيليين. ويكتشف الذاهبون إلى الولايات المتحدة أنّها بحقّ "أرض الميعاد"، ففيها من اليهود ما لا يوجد في رقعة أخرى على وجه الأرض، حتى في فلسطين ذاتها. إنّ أمريكا، بهذا المعنى، هي "دولة اليهود" التي تحدث عنها هرتسل.
في الظاهرة الجديدة ما يلفت الانتباه. فنزيف الهجرة الإسرائيلية العكسية من فلسطين المحتلة إلى أوروبا والغرب يدخل طوراً جديداً. ولو واصلت المؤشرات تصاعدها فإنّ ظاهرة "الإسرائيليين السابقين" قد تتحوّل مع الوقت إلى حالة جماهيرية جارفة متعددة المستويات.
لم تكن الآصرة التي تربط بعض الإسرائيليين بفلسطين المحتلة قادرة على مقاومة بواعث مغادرتها إلى العالم، حتى أنّ قرابة ربع الإسرائيليين أو حتى ثلثهم غائبون عن فلسطين المحتلة بسبب الهجرة أو السفر.
تأتي الهجرة العكسية ضمن مستويات متعدِّدة، فمنها مستوى يقوم على الانتقال الدائم، ومنها ما يأخذ شكل حالات سفر طويلة طويلة الأمد لأغراض السياحة والأعمال. إنّ أهمية "الهجرة المؤقتة" أنها تهيِّئ لحالة تكيّف مكاني جديدة تجعل من هذا السفر حالة إقامة دائمة أو شبه دائمة، أو حالة محفِّزة على الهجرة الدائمة لاحقاً تحت أي ظرف من الظروف.
تختار فئات النخبة من الإسرائيليين وجهات معيّنة مثل بريطانيا وسويسرا، لأسفارها المتكرِّرة أو إقاماتها الطويلة أو لمتابعة تعاقدات التجارة والعمل والتدريس، فتتطوّر الحالة بسهولة لتغدو هجرة فعلية حتى دون أن يصنّفها أصحابها كذلك.
أمّا الشباب الإسرائيلي الذي يسعى لتحقيق الذات وبناء تجربته العملية بعيداً عن الأزمة الاجتماعية المتفاقمة في مجتمع الاحتلال؛ فيختار وجهات أخرى، مثل العاصمة الألمانية. يلحظ أولئك الشبان والشابات الفوارق المذهلة في تكاليف السكن والمعيشة والتسوّق اليومي وحتى المطاعم والمقاهي، بين برلين والتجمّعات السكانية الكبرى في فلسطين المحتلة. إنهم يعثرون على فرصهم، مثلاً، في مدينة أوروبية كانت عاصمة للحكم النازي دون أن يجدوا متسعاً لهم في بؤرة الدولة التي أنشأتها الصهيونية. هكذا انتقل قرابة ثلاثين ألف إسرائيلي إلى برلين وحدها خلال هذه الموجة المتصاعدة التي قد تستقطب مئات الآلاف من أقرانهم إلى وجهات مماثلة في الشهور والسنوات المقبلة.
تتسارع الهجرة الإسرائيلية العكسية إلى أوروبا دون أن تثير الانتباه. فجمهور الاحتلال يتمتع أساساً بامتيازات الإقامة في أوروبا بسبب جوازات السفر الأوروبية التي تتيح الإقامة والعمل دون عوائق في القارة الموحّدة. بهذا لن تلحظ السجلات الرسمية في الدول الأوروبية المؤشرات السكانية الجديدة بدقة، علاوة على أنّ أنماط حياة الإسرائيليين من ذوي الأصول الأوروبية تبقى قادرة على التماهي مع الأنماط السائدة في المجتمعات الجديدة - القديمة.
لا تقتصر بواعث الهجرة العكسية على العوامل الاقتصادية والاجتماعية، فواقع الاحتلال ذاته يحفل بالضغوط كما تجسّد في صيف 2014 خلال العدوان على غزة. فعبر أسابيع سبعة استشعر مجتمع الاحتلال انكشافه أمام تهديدات وجودية، واتضح للإسرائيليين أنّ مظلّة الحماية التي تزعمها دولتهم غير فعّالة في لحظة الحقيقة. لقد تمكّنت غزة الواقعة في الخاصرة الجنوبية من حرمان الإسرائيليين من النوم الهانئ في ليالي الصيف، وقد جرى هذا في قلب العالم العربي الذي يحفل بالمفاجآت الصادمة والتحوّلات الاستراتيجية. إنّه القلق الوجودي الذي يحفِّز أي قرار بالخروج من المكان والفرار من ضغوط الواقع السياسية والاقتصادية، وستكون أوروبا أو أمريكا الشمالية خياراً معقولاً.
تتدحرج كرة الثلج فتنشأ معها بيئات جذب تحتضن الثقافة الفرعية لتجمّعات الإسرائيليين السابقين ضمن مجتمع أعرض، فتتشكّل شبكات مصالح اجتماعية لهؤلاء المهاجرين عكسياً تستقطب مزيداً من الإسرائيليين.
عندما تفقد الإقامة في فلسطين المحتلة جدواها الاقتصادية؛ فإنّ اكتشاف اللبن والعسل في وجهات أخرى لا يبدو للإسرائيليين صعباً في عصر العولمة. أمّا المفتاح الفلسطيني فما زال مرفوعاً بقوّة بعد عقود مديدة من النكبة، تعبيراً عن تشبّث أجيال اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم وديارهم، مهما تطلّب ذلك من تضحيات.