استطاع تنظيم
الدولة الإسلامية في الشهرين الأخيرين بسط نفوذه، وإحكام سيطرته على مناطق واسعة شمال
العراق، وفي الأسابيع الأخيرة تمكن من بسط نفوذه على مناطق كانت خاضعة للبشمركة الكردية في محافظة نينوى، بعدها قرر "التمدد" باتجاه إقليم
كردستان، مستهدفا مدينة إربيل عاصمة الإقليم.
التقدم السريع لتنظيم الدولة الإسلامية، واستهدافه لإقليم كردستان، أثار حفظية الرئيس الأمريكي أوباما الذي قال في كلمة له بشأن العراق بثتها محطات التلفزة الأمريكية إن "تقدم (داعش) فاق كل توقعاتنا"، مشيرا إلى أنه يرفض "إقامة دولة خلافة إسلامية على امتداد أراضي سوريا والعراق"، معلنا قراره القاضي بشن غارت جوية تستهدف مقاتلي الدولة الإسلامية لمنعهم من التقدم نحو إربيل.
التمدد الواسع الذي حققه التنظيم على الأرض، ونجاحه في فرض سلطته على المناطق التي استولى عليها، أثار جملة من التساؤلات حول الدوافع المحركة للتنظيم في تمدده، وما يقال بشأن قدرات التنظيم "الخارقة" التي مكنته من القيام بذلك، مع أن أعداد مقاتليه بحسب باحثين ومراقبين لا تتجاوز عشرين ألف مقاتل، فما هي العوامل الكامنة وراء نجاح التنظيم في تقدمه الواسع والسريع؟ وهل سيتمكن التنظيم من المحافظة على مكتسباته التي أحرزها على الأرض؟ وما هي مآلات الدولة في ظل استهدافها من قبل أمريكا؟
دوافع عقائدية وأسباب سياسية وراء التمدد
يرجع الباحث والمتخصص في شؤون الحركات الجهادية حسن أبو هنية، دوافع تنظيم الدولة الإسلامية في تمدده إلى مبدأ قتال العدو القريب (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار)، المتمثل من وجهة نظرهم في الأنظمة المرتدة، وهو ما تبناه التنظيم من بداية تأسيسه على أيدي أبي مصعب الزرقاوي، فبمجرد حصول سيطرة مكانية للتنظيم على منطقة ما، فإنه يبدأ بالتفكير في التمدد إلى مناطق أخرى.
ثم أضيف إلى ذلك بحسب أبو هنية في مراحل تطور التنظيم البعد الهوياتي، المتجسد في التصدي للشيعة ومواجهة خطرهم، لافتا إلى أن فكرة الخلافة تحتل موقعا مركزيا في منظومة التنظيم الأيدلوجية، فإذا ما تهيأت الظروف لإعلانها وبسط نفوذها وتمددها فإنهم سيعملون على ذلك، وهو ما تحقق لهم مؤخرا في إعلان خلافة البغدادي وتمدد دولتهم.
لكن هل تمدد التنظيم الأخير يتم وفق رؤية استراتيجية محسوبة الخطوات والعواقب؟ يجيب أبو هنية عن سؤال "عربي 21" بقوله: "إن قيادة التنظيم لديها فهم استراتيجي محدد مفاده أن أمريكا لن تتدخل إلا إذا تعرضت مصالحها الحيوية (النفط وإسرائيل) لخطر حقيقي ومباشر" وأن تحرك أمريكا الأخير سيقتصر على غارات جوية فقط، لذا فإن تحركات التنظيم تقع في الدائرة التي لا تشكل خطرا على المصالح الحيوية الأمريكية، وضمن المساحة الاستراتيجية المسموح بها في حدود اللعبة.
ويتابع أبو هنية قوله إن قيادة التنظيم تقيم حساباتها على أن أمريكا لن تعيد تدخلها في العراق مرة ثانية، في ضوء ما منيت به من خسائر فادحة في تدخلها السابق، ولو أن أمريكا قررت التدخل بقوات برية كما فعلت في السابق فهذا ما يتمنونه، لأنه سيكون التدخل الأخير في سياساتها الخارجية، وهم يرونها فرصة ثمينة لتوريطها، وهو ما سيعطي التنظيم شرعية واسعة، ويكشف بوضوح انحياز أمريكا لطائفة من الشعب العراقي ضد أخرى.
في السياق ذاته فإن تقارير الصحافة الغربية تحدد دوافع وأسباب تمدد الدولة الإسلامية، بإرجاعها إلى أن "الدولة" تقدم نفسها لسنة العراق على أنها الجهة الوحيدة القادرة على كسر "المحور الشيعي" الذي بنته إيران من عاصمتها طهران مرورا بالعاصمة العراقية بغداد وامتدادا إلى العاصمة اللبنانية بيروت، بحسب تقرير لصحيفة الفاينانشيال تايمز.
ويشير التقرير المعنون بـ "التخلص من الدولة الإسلامية بشكل نهائي أمر صعب" إلى أن تقلص سيطرة الحكومة المركزية في العراق وسوريا أعطى "الدولة الإسلامية" فرصة كبيرة للانتشار على الأرض في الدولتين كلتيهما، وهي الفرصة التي لم يحلم بها تنظيم القاعدة كما أنها تحظى بتمويل جيد من أموال التبرعات من دول الخليج ومصادر أخرى منها آبار النفط التي سيطرت عليها في الدولتين.
أزمة النظام السياسي العراقي وصعود الدولة
في تحليله لأسباب صعود الدولة الإسلامية بشكل مفاجئ في العراق، وبسط نفوذها على الموصل ومدن عراقية أخرى بطريقة دراماتيكية لافتة، رأى الأكاديمي والباحث السياسي العراقي الدكتور حيدر سعيد، أن العامل الأبرز والأهم هو أزمة النظام السياسي في العراق منذ سنة 2003، الذي عجز عن تحقيق مبدأ الشراكة في الحياة السياسية بين مكونات الشعب العراقي المختلفة، وتحديدا بعد 2010 بداية ولاية المالكي الثانية، التي مارس فيها جملة من السياسات الاستئثارية والاحتكارية.
وبحسب الدكتور حيدر، فإن تلك السياسات الإقصائية التي انتهجها المالكي بحق القيادات السياسية السنية، كما فعل مع طارق الهاشمي، والنائب رافع العيساوي، وصدور مذكرات اعتقال بحق شخصيات سياسية سينة، أحدثت ردود أفعال غاضبة وساخطة في أوساط أهل السنة، كحركة الاحتجاجات سنة 2012، ثم أزمة الأنبار في أواخر 2013 والتي انتهت بسقوط الموصل بأيدي الدولة الإسلامية.
وحول ظاهرة غياب أسماء القوى والمجاميع المسلحة كجيش النقشبندية، وثوار العشائر عن المشهد في الموصل، على خلاف ما ظهرت به في بداية سقوط الموصل، أوضح الدكتور حيدر في حديثه لـ"عربي 21" أن الأوساط السنية رحبت بما قام به تنظيم الدولة الإسلامية من سيطرته على الموصل، لأنه يخلصهم من ظلم سياسات الحكومة المركزية في بغداد.
وتابع قائلا: لقد حاولت الأوساط السنية -هروبا من حرج تصدر الدولة الإسلامية للمشهد- أن تقدم رواية تصور ما جرى على أنه ثورة قامت بها العشائر السنية، وحاولت بعض التنظيمات السابقة أن تتحرك في وقت مبكر، منها تنظيمات سلفية تختلف عن القاعدة، وبعضها تنظيمات المقاومة السابقة كالجيش الإسلامي، وكتائب ثورة العشرين، إلا أن الدولة الإسلامية منعت ذلك بشكل كامل، بما تمتلكه من قوة تفوق قوة القوى السنية الأخرى.
التدخل الإيراني والسيناريوهات المتوقعة
تعتبر إيران من أكثر دول الجوار حضورا وتأثيرا في الشأن العراقي، فما الذي ستفعله في مواجهتها المفتوحة مع تنظيم الدولة الإسلامية بعد سيطرته التامة على الموصل وتمدده الدائم والمتسارع على الجغرافيا العراقية؟ بحسب الأكاديمي الأردني المتخصص في الشأن الإيراني الدكتور نبيل العتوم، فإن إيران ابتداء فوجئت بما وقع في العراق، لأنها لم تكن تتوقع حصوله أبدا.
ويلفت الدكتور العتوم إلى أن إيران فشلت في تقدير قوة التنظيمات السنية التي يسمونها في إيران "بالتيارات التكفيرية"، ومدى قدرتها على بسط نفوذها وسيطرتها على المحافظات السنية كما حدث في الموصل، كما أظهرت الأحداث مدى رفض العشائر السنية في العراق للتدخل الإيراني في الشأن العراقي وتغلغله في مفاصل الدولة العراقية، ما يعني فشل صناع القرار في إيران -وخصوصا الأمني- في تقدير الأمور، والتنبؤ بما سيقع.
ويرفض العتوم في حديثه لـ"عربي 21" ما يقال عن أن إيران لم تتدخل في العراق بصورة مباشرة كما فعلت في سوريا، مشيرا إلى وجود (5000) قناص إيراني منتشرين في مناطق مختلفة من بغداد، وأن قوات النخبة الإيرانية تؤمن الحماية للمسؤولين السياسيين العراقيين، وبحسب مسؤول عراقي التقاه مؤخرا، فإن المخابرات الإيرانية أقامت قاعدة لها في جنوب العراق، وقاسم سليماني يقيم بصفة شبه دائمة في بغداد ليدير خلية أزمة عراقية إيرانية، وتتحدث التقارير الأمنية الأمريكية عن تفاقم التواجد الأمني والعسكري الإيراني في العراق مؤخرا.
ويرجح العتوم أن إيران ستتحاشى إرسال قوات عسكرية نظامية رسمية، وستكتفي بالقوات الشعبية (الباسيج) مع تعويلها على القوات الأمنية والعسكرية العراقية الموالية لها، لافتا إلى وجود تخوفات في إيران من التورط في المستنقع العراقي، باستنزاف القدرات الإيرانية، مع وجود مقترحات من جناح الصقور بالتدخل العسكري الإيراني المباشر وبالتنسيق مع المجتمع الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية والقضاء عليه ثم الانسحاب من العراق بعد ذلك.
وفيما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، رأى الدكتور حيدر سعيد أن السيناريو الأكثر واقعية، هو لجوء الحكومة العراقية إلى تفكيك الحواضن الاجتماعية الشعبية السنية المساندة لتنظيم الدولة، عبر استدخالها في العملية السياسية، مع تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة حيدر العبادي، مع إبقاء الاحتمالات مفتوحة لإنشاء "صحوات عراقية" من أبناء عشائر السنة، للقيام بمهمة مواجهة مقاتلي الدولة الإسلامية في مناطقها.