إحدى مزايا التجول بالريف البريطاني الجميل أنك تجد في كل قرية مكتبات صغيرة تبيع كتبا قديمة يزيد عمر البعض منها عن قرن ونيف محافظا عليها بشكل جيد، وأحد تلك الكتب التي اشتريتها يتحدث كاتبها كشاهد عيان وكمشارك عسكري في أحداث مصر إبان ثورة
عرابي 1882 (للمعلومة عدد سكان مصر آنذاك 5 ملايين، وبريطانيا 25 مليونا وفرنسا 30 مليونا، أما الآن فعدد سكان بريطانيا 62 مليونا وفرنسا 65 مليونا ومصر 90 مليونا).
ويروي الكاتب ان طلب الانجليز من عرابي بعد تمرده لم يزد عن الاستقالة والبعد عن مصر لمدة عام فقط، ويستطرد ان الانجليز شعروا بالورطة الشديدة عندما انسحبت السفن الفرنسية والايطالية الحربية من امام شواطئ الاسكندرية حيث لم يكن مجموع الجنود الانجليز على السفن يزيد عن 3 آلاف جندي وضابط وكان الحد الاقصى لما يمكن انزاله منهم للبر للحرب وحماية المدنيين الاوروبيين هو 1500 يقابلهم 15 الفا من جند عرابي ومدافعهم مما يعني حسب قوله الهزيمة المؤكدة، الا ان عرابي وبذكاء شديد قرر الانسحاب من الاسكندرية دون حرب وحرقها ونهبها تطبيقا - حسب رؤيته - لسياسة الروس امام غزو نابليون لهم والمسماة بسياسة الارض المحروقة.
والحكاية السابقة تظهر زيف تاريخنا العربي منذ زمن عرابي الى عهد
القذافي وكيفية تحويل الهزائم الحقيقية المنكرة الى انتصارات وهمية مبهرة، مع عدم الخجل من الاعتراف بالعبط والغفلة عبر التوقع الدائم للهجوم من الشرق فيأتي من الغرب أو العكس كما حدث في موقعة التل الكبير التي توقع عرابي هجوم الانجليز من الغرب فأتوه من الشرق فهرب الى القاهرة طالبا السلامة تاركا جيشه المجحفل مما تسبب في احتلال مصر من قبل قلة قليلة من الجنود الانجليز وقد هجاه احمد شوقي شعرا وهاجمه الزعيم مصطفى كامل في خطبه ومقالاته، كما صفعه احد شباب الحزب الوطني فدخل بيته ولم يخرج حتى وفاته ثم كرت السبحة في انتصارات 48 و56 و67 وأم المعارك الخالدة.. الخ.
آخر محطة: 1- في مرحلة تزييف
التاريخ الشديد في مصر عقب الانقلاب العسكري صيف 1952 تم الثناء الشديد على العسكري المدمر احمد عرابي والقدح بالمقابل في الخديو المعمر اسماعيل باني مصر الحديثة وشتان ما بين الاثنين.
2- في خطاب التنحي يونيو 1967 ذكر عبدالناصر وصدقه الليبيون انه توقع الهجوم الاسرائيلي من الشرق فأتى من الغرب تلميحا الى أنه ضرب من القاعدة الأميركية في ليبيا وهو للاسف كذب بواح تسبب في النهاية في سقوط حكم الادريسي، والحقيقة ان مخابرات ناصر خذلته حين لم تبلغه بأن اسرائيل نجحت في تزويد طائراتها الميراج قصيرة المدى بخزانات وقود اضافية مكنتها من الوصول الى اقصى الجنوب والغرب المصري.
3- وفي يناير 1991 وعلى صفحة كاملة لجريدة «مصر الفتاة» كتب الفريق محمد فوزي مقالا مفتوحا وجهه إلى صدام وضع فيه كل خبرته العسكرية كوزير سابق للحربية قال ضمنه ان الهجوم الأميركي سيأتي شرقا من البحر (أتى غربا من البر) وان ضحايا الهجوم في يومه الاول سيزيد عن ربع مليون قتيل أميركي (مجموع ضحايا الحرب 144 قتيلا أميركيا) مما سيرغم الرئيس بوش على الايقاف الفوري للحرب، وكان العبقري فوزي هو من اقترح اشعال حرب الاستنزاف التي استنزفت مصر ولم تضر اسرائيل، وارغمت ناصر على القبول ببادرة روجرز وتسببت في أول ذبحة صدرية له بعد حادثة سرقة رادار الزعفرانة. وفيما بعد تقدم فوزي بمقترح تقديم الاستقالة الجماعية لوزراء الحربية والداخلية والاعلام ورئاسة مجلس الشعب.. الخ. كوسيلة لإسقاط السادات مما تسبب في عزلهم وسجنهم. وهل يحتاج من يملك كل تلك القوى والبيادق بيده للاستقالة لاسقاط الحكم؟! وهل هناك تخبط أكثر من هذا؟
(الأنباء الكويتية)