بعد جلسة طويلة دامت يوما كاملا صادق المجلس الوطني التأسيسي بداية الأسبوع على "حكومة التكنوقراط" التي انبثقت على "الحوار الوطني". كان السياق السياسي الإيجابي المتمثل في التصويت بما يشبه الاجماع في المجلس على مشروع الدستور في ليلية تاريخية يوم 26 كانون الثاني/ يناير، والذي أتت في إطاره الحكومة الجديدة دافعا اساسيا للتصويت عليها بأكثر من ثلثي أعضاء المجلس رغم الانتقادات التي وجهت إليها أساسا بسبب تحفظات عدد من النواب حول السير الذاتية لبعض أعضائها. يبقى ان التحدي الرئيسي الذي يواجهها هو حفاظها على السلم الاجتماعي حتى تحقق الهدف الأساسي من وجودها أي الوصول بالبلاد الى الانتخابات مقابل الالتزام بمجموعة إجراءات حتى يمكن مواصلة تلقي اقساط قرض
صندوق النقد الدولي. وبرغم أننا بصدد موضوع تقني في الشكل إلا ان جوهر مهمة الحكومة بهذا المعنى سياسي بامتياز، في حين انها حكومة لا تتشكل من سياسيين.
بعد التغيير الحكومي قرر مجلس ادارة صندوق النقد الدولي في اجتماعه الدوري وسط الاسبوع اطلاق القسط الثاني بقيمة 500 مليون دولار من القرض الممنوح منذ شهر حزيران/ يونيو الى
تونس بقيمة اجمالية 1.7 بليون دولار. كان من المفترض منح القسط الثاني منذ شهر كانون الأول/ ديسمبر، لكن تم تأجيله حتى القيام بعدد من الاجراءات، لكن ايضا حتى التوافق على حكومة "مستقلة" جديدة. هذا القسط كان شرطا رئيسيا لإطلاق قروض اخرى من المؤسسات التمويلية الدولية (البنك الدولي، الاتحاد الاوروبي...) مبرمجة في
الميزانية لهذه السنة لمواجهة العجز الناتج اساسا على التصرف غير الرشيد والذي يحتاج اصلاحا أكيدا لمنظومة الدعم، وهي حالة ناتجة ايضا على خيارات هيكلية واستراتيجية لنظام بن علي استغرقت لسنوات.
الاجراءات المطلوبة مع نهاية العام المنصرم مع اخر زيارة لوفد الصندوق كانت ستة بالاساس وتتمثل فيما يلي:
أولا، التقليص من هشاشة البنوك العمومية عبر اعتماد معايير موحّدة لتقييم مخاطر القروض وتقييم حذر للضمانات البنكية خلال التدقيق الشامل وإصدار أمر يدعم الحوكمة في البنوك العمومية.
ثانيا، الترفيع في نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي التونسي بـ50 نقطة اساسية.
ثالثا، مصادقة المجلس الوطني التأسيسي على مشروع ميزانية الدولة لسنة 2014، وتحديد إجراءات خاصة في مذكرة السياسات
الاقتصادية والمالية تمكن من بلوغ الهدف الكمي المتعلق بعجز الميزانية.
رابعا، اعتماد مجلس الوزراء لبرنامج دعم موجه للأسر المستهدفة ليصاحب اصلاحات منظومة دعم المحروقات.
خامسا، تقديم التقارير الأولية المتعلقة بنتائج التدقيق الكلي لمؤسستين بنكيتين عموميتين يعانيان من صعوبات مالية كبيرة أمام أنظار الحكومة.
سادسا، اعتماد مجلس الوزراء لقرار من وزير الصناعة بخصوص قاعدة إحتساب جديدة للتحديد الآلي لأسعار المحروقات.
لكن يبدو ان وفد الصندوق لم يكن مرتاحا للتحكم في العجز كما ورد في ميزانية 2014، وطلب بالاضافة الى التخفيضات السابقة تخفيضا في عجز ميزانية سنة 2014 بما يفوق 400 مليون دينار وإلا سيتم تمديد فترة اتفاقية القرض بتسعة أشهر أي إلى شهر آذار/ مارس 2016. وسيترتب عن هذا التمديد التقليص في حجم الدعم المالي المقرر لسنة 2014 بما يصل الى 200 مليون دولار. كما سيتم إضافة مراجعات إضافية بكل ما ينجر عنها من إجراءات وإصلاحات اقتصادية ومالية للفترة التي سيشملها التمديد. في كل حال، وبالنسبة للاشهر القادمة وفي حالة عدم التوصل الى تنفيذ الالتزامات المطلوبة من الممكن ان يتم تأجيل التفاوض لبضع اشهر بناء على تعهدات كتابية بإيجاد صيغ للقيام بالاجراءات الجبائية الاضافية.
يبقى ان الحكومة الجديدة ستواجه مشكلا اضافيا يتمثل في ان احد هذه الاجراءات الستة، وتحديدا الاجراء الثالث، سيحتاج المراجعة بما أن ميزانية سنة 2014 ورغم التصويت عليها فإنه ستتم على الارجح مراجعتها اثر "احتجاجات الأتاوات" بداية السنة الجديدة. وقد اشار وزير المالية في الحكومة المستقيلة ان أي مراجعة للاتاوات الجديدة سيعني ضرورة الرفع الفوري لأسعار المحروقات حتى يتم الحفاظ على مستوى التحكم في العجز مثلما تم تحديده في الميزانية. هذا دون الحديث عن طلب الصندوق تخفيضا اضافيا مثلما اشرنا اعلاه.
المشكل المطروح الآن، ومثلما نبه البعض في السابق (قبل اسناد القرض في شهر حزيران/ يونيو مثلا تقرير المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية في افريل 2013)، ان وتيرة الاصلاحات المطروحة في الاتفاق مع صندوق النقد ومضمونها يمكن ان يؤدي الى احتجاجات اجتماعية تهدد استقرار الحكومة الحالية والهدف من تشكيلها اي اجراء انتخابات. ومثلما نبهت وسط الاسبوع افتتاحية صحيفة غربية امريكية تمثل الاستبلشمنت كالنيويورك تايمز (وليس منبرا يمكن اتهامه بالشعبوية)، نبهت المؤسسات التمويلية الدولية بأنه لا يمكن الجمع بين هدف الاستقرار تحضيرا للانتخابات واجراءات اقتصادية لا شعبية. سيأتي وقت الاصلاحات لكن بعد الانتخابات وذلك من الاسباب الرئيسية لإجراء انتخابات في اقرب وقت ممكن.
وحينها فقط، أي بعد الانتخابات، يجب ان تواجه الاطراف السياسية السؤال الوجودي الرئيسي في رأيي (بعيدا عن الاستقطاب الثنائي اسلام علمانية) أي مثلما اشرنا سابقا اختيار واحد من خيارين: إما الضغط على مصاريف الرعاية الاجتماعية والتقليص بقوة من كل الضغوط الممكنة على الاستثمار الخاص الداخلي منه لكن خاصة الاجنبي، وإما امساك الدولة بمقاليد الامور بشكل مؤقت وتحديدها مخططات تنموية للاستثمار تركز على تقليص العجز عبر التقشف لكن مقابل الاستثمار في الامنين الغذائي والطاقي طويل الامد.