بعد صراع طويل استنزف اياما اضافية من الرزنامة المختصرة والزمن الثمين لعمل
المجلس الوطني التأسيسي في
تونس، خلصت أغلبية واضحة من نواب المجلس للتوافق على الفصل 103 واحد من اكثر فصول مشروع
الدستور جدلا والمتعلق بمن يختص بالتسميات القضائية. وكانت الهيئات النقابية القضائية قد شنت حملة قوية ومركزة بما في ذلك من خلال الحضور المباشر في أروقة المجلس للضغط على نواب المجلس من أجل التحصل على ما اسموه بـ"المعايير الدولية الدنيا لاستقلالية القضاء"، واتهموا بشكل متناسق مع نواب المعارضة كتلة "حركة
النهضة" الإسلامية التي تمثل أغلبية في المجلس بأنها تريد "السيطرة على القضاء"، فيما اتهمت الأخيرة الهيئات القضائية والمعارضة بأنها تريد ان تفرض "دكتاتورية قضائية".
كان من المفترض ان ينته التصويت على الدستور فصلا فصلا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثالثة لهروب الدكتاتور في 14 يناير غير أنه، وكما كان متوقعا، كانت احد العقبات الاساسية التي عطلت مداولات المجلس لأيام الفصول المتعلقة بباب "السلطة القضائية". كانت دائما من مفارقات اللغة بالنسبة لي ان يقع دمج القضاء ضمن معنى "السلطة"، في سياق السلطات الثلاثة التي ترتكز عليها وعلى انفصالها واتصالها على السواء الدولة الحديثة. اذ السلطة بمعناها المركز والاكثر بروزا، أي التتفيذي والسياسي، تبدو في انفصال عن مجال القضاء الذي يبدو نظريا اكثر طهورية، مراقبا للسياسي ومحددا لصلاحياته. بيد ان صورة "القاضي" كانت في مخيلتي ايضا منذ صغري، وكانت عموما صورة ذكورية، كانت صورة المتواطئ مع سلطة السياسي المستبد والقمعي.
ترددت على مكاتب التحقيق والمحاكم منذ صغري بحكم ترددنا كعائلة على جلسات محاكمات والدي بصفتيه النقابية والسياسية المعارضة في عهدي بورقيبة وبن علي بدءا من السبعينات الى التسعينات. وكانت تلك الصور الضبابية لثلاثة شخوص يتصدرون المجلس ويتعاملون ببرود كامل احيانا وبشراسة واضحة احيانا اخرى، لكن بدون اي رحمة في كل الحالات، وتحت اعين البوليس الرسمي والسري في قاعة تختنق بالحضور والمحامين، كانت دائما بالنسبة لي اختزالا لمعنى "القاضي" في بلدي. ليس من المصادفة ان التسمية الدارجة للقاضي في تونس لا تفصل بين السلطيتين السياسية والقضائية، اذ تسميه ببساطة "الحاكم".
في الأصل كان سيكون النقاش حول "استقلالية القضاء" عاديا لو فسخنا كل الماضي الفظيع المسيطر على ذاكرة تونس لما كان يسمى بـ"قضاء التعليمات". كل القضايا ذات الطابع السياسي كانت يتم الحكم فيها بالتعليمات حيث يتم لي القوانين وبعضها قوانين لا دستورية تنتهك الحريات للحكم ضمن سياق "جريمة الحق العام" على افعال تتعلق بحق النشاط السياسي والتعبير والتنظم والتظاهر. وهو الامر الذي استشرى زمن بن علي على جه الخصوص حينما كان يتم نفي الصفة السياسية للمساجين المحكومين في هكذا قضايا واعتبارهم "مجرمي حق عام". وفوق ذلك كان الفساد ينخر اوصال القطاع، حيث كان تعميم وتوسيع دائرة الفساد احد الأدوات الرئيسية للنظام القمعي لبسط سيطرته على القضاة باستعمال التورط في أي خروقات كصيغة رئيسية لخلق حالة تبعية موضوعية لمنظومة الاستبداد والفساد. المشكل الآن ان الهيئتين النقبيتين القضائيتين ("النقابة" و"الجمعية") وفي سياق تنافسها على حيازة نصرة القضاة اتجهتا تدريجيا نحو حالة "التضامن القطاعي" (corporatism) بما يدع مجالا ضيقا للمحاسبة الذاتية.
هذا الوضع يتناقض مع حالة ايجابية سرت بقوة مباشرة اثر هروب بن علي من النقد الذاتي، وأبرز الامثلة تصريحات القاضي احمد الرحموني، وهو احد القضاة القلائل الذين دافعوا عن "استقلالية القضاء" تحت حكم بن علي، اعتبر فيها ان الجزء الاغلب من القطاع مسه الفساد. ولكن بمجرد انتخاب المجلس الوطني التاسيسي واقتراح بعض الكتل (على رأسهم كتلة المؤتمر) لمشاريع قوانين لتصفية هذه التركة وفتح صفحة جديدة كانت الهيئات القضائية تستميت في التصدي لأي محاولة من هذا النوع، وتعتبرها "ضربا لاستقلالية القضاء". وهكذا انتقلنا مباشرة من دعوات لمحاسبة عدد واسع وربما يكون مبالغا فيه من القضاة الى وضع يتم فيه استعمال عنوان "الاستقلالية" لضرب أي توجه ولو بسيط نحو وضع القطاع امام المحاسبة والمراقبة. وضمن هذا السياق تم التصدي بقوة لإعفاء حوالي ثمانين قاض على اساس انه عمل "انتقائي"، وتمت الدعوة ان تقوم النقابات وحدها بعملية المحاسبة، وهو ما لم يتم طبعا.
السؤال الكبير المخفي في المداولات التي تمت في الايام الفارطة هو التالي: هل يمكن ان نمنح "استقلالية" مطلقة لقطاع هناك شبهات موضوعية بأنه لا تزال خريطة وشبكات الولاء فيه لمراكز ضغط تتبع المنظومة القديمة والاهم لشبكات يمكن ان تتعلق بالفساد، تحتاج التحقيق على الاقل؟ ولم يتم حتى محاولة نقاش صيغة يتم فيها اصدار صيغ انتقالية في الدستور تشترط وضع "الاستقلالية" المطلقة باستكمال مسار المحاسبة الذاتية ضمن الهيئات النقابية في اقل الاحوال، وبمعنى "اضعف الايمان".
فوق ذلك، فإن الجدال لم يتم بتأن كاف حت يمكن حسم معنى "الاستقلالية" خاصة في سياق تجارب مقارنة. نرجع هنا للفصل 103 انتهى النقاش حوله ضمن الصيغة التوافقية التالية: "يسمى القضاة بأمر رئاسي بناء على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء. يسمّى القضاة السامون بأمر رئاسي بالتشاور مع رئيس الحكومة، بناء على ترشيح حصري من المجلس الأعلى للقضاء، ويضبط القانون الوظائف القضائية السامية". في نهاية الامر حددت هذه الصيغة سلطة الترشيح "حصريا" في اطار هيئة قضائية يتم انتخاب اغلب اعضائها من وسط القطاع بما يتيح للهيئات النقابية سلطة تأثير هائلة. ولم يبق امام السلطة التنفيذية حتى رئاسة الجمهورية التي تم اعتبارها في الدستور مؤسسة ضامنة للحقوق والحريات، لم يبق أمامها سوى المصادقة على مرشحي الهيئة القضائية. وفي الحقيقة هذا ليس بالضرورة نموذجا ديمقراطيا يضمن انفصال واتصال السلطات وخضوعها للمراقبة المتبادلة. في ألمانيا على سبيل المثال يقوم وزير العدل المحلي او الفيدرالي بتسمبة القضاة. في حين يتم تسمية القضاة السامين من خلال لجنة مشتركة لوزير العدل الفيدرالي ولجنة من البوندستاغ ولجنة قضاة ووزراء محليين. في الولايات المتحدة يتم تسمة القضاة من قبل رئيس الجمهورية. وفي بريطانيا تتم التسميات من خلال "المستشار اللورد" رئيس مجلس اللوردات بالتشارك مع رئيس الحكومة.
القضاء سلطة بكل تأكيد تستوجب حالة من الانفصال والاتصال مع بقية السلطات. يبقى ان القضاء في تونس لن يبدأ الآن ولن يبدأ بقضاة ولدوا بعد الثورة. التاريخ الطويل والمثير للجدل لـ"قضاء التعليمات" وشبهات الفساد التي نخرت بعض مفاصله تجعل من الاستقلالية بدون محاسبة إعادة انتاج بالضرورة لسلطة ذات مصالح تتجاوز الصلاحيات والهوية العادية للقضاء. من جهة اخرى، عدم المحاسبة لا يجب ان يكون عنوانا لمحاولة سيطرة السلطة السياسية على قطاع عانى طويلا من الهيمنة، والذي يوجد فيه الكثير من الشرفاء الذين يحاولون بناء سمعة جديدة تتجاوز ادران الماضي. هي معادلة صعبة، وتواجه حالة التأسيس في سياق اصلاحي يتفرض "المصالحة" بين الماضي والحاضر في مواجهة سياق الثورة والقطيعة الذي يواصل التواري كلما نمر قدما في الزمن. وهي ذات المعادلة المعقدة في قطاعات اخرى، تمثل سلطة بذاتها على غرار الاعلام، والذي سيثير الجدل في الايام القادمة من خلال نقاش الفصلين 122 و124 حول الهيئة الدستورية للاتصال السمعي البصري.