شهدت الايام والاسابيع القليلة الماضية تصعيدا غير مسبوق بين السلطات
ومعارضيها بمختلف الوانهم ومواقعهم بمن فيهم عدد من السياسيين والنقابيين الذين
ساندوا بقوة قرارات 25 يوليو 2021 التي أدت إلى ايقاف العمل بدستور 2014 وحل
برلمان 2019 والحكومة المنبثقة عنه وعدد من الهيئات العليا المنتخبة بينها هيئة المجلس الأعلى للقضاء..
وسجل المراقبون خلال الأسبوع المنقضي ترفيع نسق التحركات المساندة
للسلطات وتظاهرات المعارضين له.
واحتدت التجاذبات بين جبهتين:
الأولى تعلن دعم رئاسة الجمهورية والحكومة وتدعم تصريحات الرئيس
التونسي قيس سعيد التي انتقد فيها بقوة ما وصفه بـ"التدخل الأجنبي في الشؤون
الداخلية للبلاد" وكلف وزارة الخارجية بإبلاغ العواصم الغربية احتجاجا على
بلاغات أصدرتها تطالب بالافراج عن الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية بينهم عدد
من المحامين والاعلاميين..
وفي هذا السياق انتظم في الشارع الرئيسي العاصمة تجمع شارك فيه عشرات
مساندة للرئيس سعيد ورفعوا شعارات سياسية عديدة ضد المعارضين.
ـ الجبهة الثانية تضم معارضين من كتلتين:
ـ الكتلة الأولى تضم شخصيات سياسية
وأحزابا من
المعارضة أحيل بعض زعمائها والمقربين منها على المحاكم ضمن قضايا
"التآمر على امن الدولة" و"قطب الإرهاب".. ويتصدر هذه الكتلة
رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق على العريض وزعماء الأحزاب
والمجموعات السياسية المنخرطة في حراك "جبهة الخلاص الوطني" بزعامة
المحامي اليساري العروبي أحمد نجيب الشابي ورفاقه المعتقلين مثل الأكاديمي
والحقوقي اليساري جوهر بن مبارك َوزعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي والوزير السابق في عهد الباجي قائد السبسي رضا
بالحاج والقيادي السابق في حزب النهضة عبد الحميد الجلاصي والأمين العام السابق
لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي والخبير الاقتصادي المستقل خيام التركي..
وقد صعدت هذه الكتلة حركاتها في الشوارع وخلال التظاهرات التي نظمت أمام
المحاكم أو في مقرات المحامين..
ـ الكتلة الثانية، برزت بمناسبة تظاهرة نظمت لإحياء الذكرى 47 لتأسيس
رابطة حقوق الإنسان بمشاركة حقوقيبن
وسياسيين مستقلين وقيادات منظمات الصحفيين والمحامين والقضاة وهيئات حقوقية
ونقابية بينها الاتحاد العام التونسي للشغل ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان.
وتميزت هذه التظاهرة بتصعيد، هو الأول من نوعه منذ اعوام، ضد السلطات وبالاعلان عن "مبادرة سياسية
وطنية طموحة لتوحيد المعارضين والحقوقيين" تبدأ بالدعوة إلى تنظيم
"مؤتمر وطني للحقوق والحريات".
وتذكر هذه المبادرة بخطوات مماثلة لمحاولة توحيد المعارضين والحقوقيين
ومنظمات المجتمع المدني.
ولعل من أبرز العناصر المهمة في المبادرة الجديدة أنها ساندت بقوة
التحركات التي قام بها آلاف المحامين والإعلاميين والنشطاء قبل أيام احتجاجا على
اعتقال مجموعة جديدة من المحامين والإعلاميين بينهم النجمة التلفزية والمعلقة
السياسية سنية الدهماني والمحاميين المهدي زقروبة ونضال الصالحي والإعلاميين مراد
الزغيدي وبرهان بسيس ومحمد بوغلاب وشذى الحاج مبارك..
وخلافا لخطاب "الدعوة إلى التهدئة" الذي برز مرارا على
لسان نقيب المحامين حاتم المزيو
وأعضاء من مكتب هيئة المحامين، فإن قيادات منظمات المحامين الشبان والقضاة
والصحفيين و حقوق الإنسان صعدت اللهجة سياسيا و قانونيا.
وذهب بعض هذه القيادات حد رفع قضايا عدلية وشكايات رسمية محورها "ملفات
شبهات تعذيب للمحامي المهدي زقروبة" واتهامات للسلطات "بعدم
احترام الإجراءات القانونية" في ملفات الموقوفين الجدد والقدامى في قضايا ذات
صبغة سياسية، بما في ذلك بالنسبة لعشرات "الاعلاميين" الذين يفترض أن
يحاكموا وفق المرسومين 115 و 116 اللذين يعاقبان من تثبت إدانته بخطية مالية وليس بالسجن.
ويلتقي قادة النقابات والمعارضة والمنظمات الحقوقية حول المطالبة
بعدم اعتماد المرسوم 54 المثير للجدل وخاصة الفصل 24 منه الذي يفرض عقوبات بالسجن
وخطايا مالية كبيرة على كل المواطنين والإعلاميين في قضايا "الجرائم
الإلكترونية و الاعلامية"... خاصة إذا كانت التهم تشمل "الثلب"
و"نشر الاخبار الزائفة" و"هضم حق موظف عمومي" والنيل من رموز
الدولة... الخ.
لكن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه اليوم بعد أن استفحلت الأزمة
الاقتصادية وتعمقت الهوة بين السلطة والمعارضة والنقابات والمجتمع المدني والهيئات
الحقوقية عشية انطلاق الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقررة للخريف القادم.. إلى
أين تسير البلاد؟
هل يكون "التصعيد المتبادل" ورقة تستخدمها عدة اطراف
لتنويع "ضغوطاتها" بهدف تحسين "شروط التفاوض"؟ أم إنه مجرد
"زوبعة في فنجان" سرعان ما تهدأ بسبب الانقسامات الداخلية في صلب أغلب النقابات والأحزاب والأطراف
السياسية؟
وهل ستكون التحضيرات للانتخابات الرئاسية القادمة فرصة "للتهدئة" أم "للتصعيد وتفجير مزيد من التناقضات"؟ وهل ستستفيد المعارضة وحلفاؤها
من الحملات الإعلامية والضغوطات الأجنبية على الحكومة وقصر قرطاج أم يحصل العكس؟
وإذا سلمنا بأن السلطات في تونس رفضت منذ "منعرج يوليو
2021" الرضوخ لضغوطات الاتحاد الأوروبي وواشنطن و مجموعة السبعة الكبار G7 ومؤسسات
أممية وحقوقية دولية، فهل ستقبلها هذه المرة مع اقتراب أجل تنظيم الانتخابات
الرئاسية؟
التقييمات متباينة وتقديرات الموقف غير مستقرة ولا توحي بتبلور
"توافقات جديدة "..
لكن الملفت للانتباه هو أن الجديد في "الخطاب السياسي
والإعلامي"، الذي أفرزته تحركات ممثلي السلطة والمعارضة مؤخرا، هو المناقشة علنا لـ "سيناريوهات التغيير السياسي" في
البلاد.. في المقابل برزت تباينات بين قوتين: الأولى تدعو إلى "تغيير
النظام" والثانية إلى" تغيير السياسات" مع "تغيير بعض الوزراء
وبعض المسؤولين عن الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة التي تمر بها
البلاد".
هذه التباينات تعيد إلى السطح حوارات وصراعات مماثلة برزت في عهد
الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وبعد ثورة 2011 ثم
بعد "القرارات الاستثنائية" في 21 يوليو 2021.
كيف سيتغير المشهد السياسي والاجتماعي في ظل هذه التطورات؟
البعض يراهن مجددا على "تدخل حاسم من قبل القوى الصلبة
الاقتصادية والأمنية والعسكرية" الحريصة على "تجنب سيناريوهات تعميق
المخاطر والأزمات" ودفع الأوضاع نحو الانهيار والشلل.
في المقابل يراهن آخرون على "الصبغة الاستراتيجية" للتحالف
الذي برز مؤخرا بين قيادات النقابات والمعارضات بكل ألوانها داخل البلاد وخارجها،
بعد اعترافها ببعض الغلطات التي وقعت فيها قبل انتفاضة 2011 وبعدها.. بما
فيها "السقوط في فخ المعارك الهامشية الداخلية" و"الاصطفاف الأيديولوجي
والعقائدي"...
لكن كل هذه التطورات قد تبقى ظرفية، إذا لم تحسم القضية الخلافية الأبرز
بين كبار "صناع القرار" داخل مؤسسات الدولة والمعارضة، وبينها حول "الهدف المشترك" هل هو
تغيير السياسات وبعض المسؤولين أم تغيير النظام؟
ثم لا بد من إجابة واضحة عن سؤال آخر يفرض نفسه اليوم: هل يكون دعم
جهود "التغيير السياسي" عبر الانخراط في العملية الانتخابية الجديدة أم
عبر مقاطعتها ومحاولة "تحريك الشارع" والنقابات والمنظمات والأحزاب
و"الورقة الدولية"؟