في الوقت الذي أعلنت فيه بعض الشخصيات "الوطنية" عزمها الترشح للانتخابات
الرئاسية القادمة ومنافسة الرئيس سعيد على أساس الدستور الجديد الذي جبّ ما قبله
من دساتير، خاصة دستور 2014، أعلن رئيس
جبهة الخلاص الوطني الأستاذ نجيب الشابي
يوم الثلاثاء الماضي قرار الجبهة -أكبر تكتل معارض للرئيس
قيس سعيد ولمشروع
"تصحيح المسار"- عدم المشاركة في
الانتخابات التي ستجرى في أيلول/
سبتمبر أو تشرين الأول/ أكتوبر القادمَين. ولا تأتي أهمية هذا التصريح من أهمية
السيد الشابي الذاتية أو وزنه الانتخابي وقيمته الاعتبارية؛ بقدر ما تأتي من أهمية
التكتل المعارض الذي يتحدث باسمه والذي يتكون من ستة أحزاب منها حركة النهضة.
وبحكم
انتقال العديد من الفاعلين الجماعيين خلال ما سُمّي بـ"العشرية السوداء"
إلى مربع الموالاة المطلقة أو الموالاة النقدية، واعتراف البقية بـ"إجراءات
الرئيس" مع رفض مشروعه السياسي الذي أقصاها من دائرة السلطة وحجّم دورها
المعارض، فإن الجبهة التي تأسست في 31 أيار/ مايو 2022 تُعتبر هي صوت المعارضة
الأكثر جذرية للرئيس؛ بحكم رفض مكوناتها لشرعية النظام الحالي وتعرض العديد من
رموزها -إلى جانب أطراف أخرى- لمحاكمات بتهمٍ مختلفة أهمها التآمر على أمن الدولة.
الجبهة التي تأسست في 31 أيار/ مايو 2022 تُعتبر هي صوت المعارضة الأكثر جذرية للرئيس؛ بحكم رفض مكوناتها لشرعية النظام الحالي وتعرض العديد من رموزها -إلى جانب أطراف أخرى- لمحاكمات بتهمٍ مختلفة أهمها التآمر على أمن الدولة
لفهم
موقف الجبهة من الانتخابات الرئاسية وطابعه "التكتيكي"، فإن علينا أن
نُنسّب الحكم المتعلق بهويتها من حيث هي معارضة جذرية للنظام الحالي وإنكار مطلق لشرعيته الدستورية، فهذا الحكم يقوم على الغالب من مواقف الجبهة أو المشهور عنها
عند عموم
التونسيين؛ ذلك أنّ تفصيلات هذا الموقف توقفنا على أن زعيم الحزب الأهم
في الجبهة -أي الأستاذ راشد الغنوشي المسجون حاليا- قد عبّر عن موقف مناقض بعد
أشهر من "إجراءات الرئيس" المفعِّلة للفصل 80 من الدستور. ففي مقال
بجريدة الرأي العام التونسية بتاريخ 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 كتب رئيس حركة
النهضة: "يوم 25/7/2021 جاءت قرارات سعيد في وقتها مستجيبة معبّرة عن
إرادة شعبية صادقة متعطشة إلى التغيير، ضائقة ذرعا بالحكومة وحزامها السياسي (..) عندما
يتأخر عن الفعل الإنقاذي الواجب مَن يجب عليه القيام به، يغدو مشروعا بل واجبا على
غيره". وبصرف النظر عن البنية الفقهية العميقة لهذا الموقف السياسي، فإنه
يتقابل جذريا مع الموقف الذي سبقه والموقف الذي تلاه من جهة أنهما قد تموضعا في
دائرة المعارضة الجذرية التي تتهم النظام بالانقلابية وتنكر شرعيته الدستورية
والشعبية.
عندما
نتحدث عن الطبيعة التكتيكية لموقف الجبهة فإننا لا نؤسس هذا الحكم فقط على تذبذب
مواقفها من النظام الحالي، بل نؤسسه كذلك على معطيين آخرين هما: أولا ربط الجبهة
لموقفها الرافض للمشاركة في "المسرحية الانتخابية سيئة الإخراج" بالقدرة
على تغيير شروط التنافس الحالية التي ينعدم فيها مبدأ تكافؤ الفرص، ويغيّب عنها
القادرون على المنافسة لأنهم "في السجن أو على أبواب السجن"، ثانيا عدم
تصريح الجبهة بأنها في حال عدم تغير الشروط فإنها لن تكون معنية بالانتخابات ولن
تدعم مكوناتُها (خاصة القواعد الانتخابية لحركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس
باعتباره أحد ورثة التجمع المنحلّ) أي منافس جدّي للرئيس.
مشروع الجبهة في العمل على تغيير شروط التنافس وتحقيق تكافؤ الفرص؛ لا يشمل التشكيك في مصداقية هيئة الانتخابات أو المطالبة بتغييرها (رغم تعيين الرئيس لأعضائها مما يجعلهم موضع شك من جهة الاستقلالية عن السلطة التنفيذية)، بل هو يرتكز أساسا على العمل على إطلاق سراح السجناء السياسيين وعودة الأجسام الوسيطة -خاصة الأحزاب- إلى العمل الطبيعي
ويبدو
أن مشروع الجبهة في العمل على تغيير شروط التنافس وتحقيق تكافؤ الفرص؛ لا يشمل التشكيك
في مصداقية هيئة الانتخابات أو المطالبة بتغييرها (رغم تعيين الرئيس لأعضائها مما
يجعلهم موضع شك من جهة الاستقلالية عن السلطة التنفيذية)، بل هو يرتكز أساسا على
العمل على إطلاق سراح السجناء السياسيين وعودة الأجسام الوسيطة -خاصة الأحزاب- إلى
العمل الطبيعي؛ بعيدا عن مصادرة المقرات واستهداف أهم المعارضين بتهم سياسية تحول
دون ترشحهم، وهو ما عبّر عنه السيد نجيب الشابي قائلا: "مقرّ جبهة الخلاص
مصادر ولا يُسمح بالدخول إليه، فعن أي انتخابات نتحدث إذا كانت حرية الاجتماع
والتعبير مصادرة.. وعن أي انتخابات نتحدث وكل من هو قادر على منافسة الرئيس قيس
سعيد إما في السجن أو على أبواب السجن".
لعل
أهم ما ورد في كلام السيد نجيب الشابي هو إشارته إلى مشروع سلطوي لتغيير القانون
الانتخابي، حيث "يطبخ في الغرف الخلفية للسلطة قانون آخر للانتخابات
وتعديلات جوهرية لتفريغ الساحة أمام المنافس الرسمي"، وهو ما يتعارض مع
تصريحات الرئيس قيس سعيد. فرغم مواصلة رأس النظام لهجومه على المعارضة بصورة مُمنهجة،
ورغم تأكيده لرئيس هيئة الانتخابات السيد فاروق بوعسكر على ضرورة منع أصحاب
الشبهات والمرتبطين بالمال الفاسد من الترشح لأنهم "لا هَمّ لهم سوى رئاسة
الدولة متناسين ماضيهم القريب والبعيد الذي لم ينسه الشعب، ومواصلين في غيّهم في
أحلام اليقظة والنوم"، فإنه قد صرّح أيضا بأنه لا يوجد أي مبرر لتغيير
القانون الانتخابي.
أمام
هاتين السرديتين المتناقضتين، فإننا موضوعيا لا نستطيع ترجيح إحداهما إلا بضرب من
التعسف أو القياس الفاسد. فقد يكون كلام السيد نجيب الشابي مجرد كلام مرسل هدفه
إضعاف الرئيس باعتماد مفردات تنتمي إلى السجل الدلالي الذي استهدف المعارضة (الغرف
المظلمة)، وقد يكون هدف السيد الشابي تشكيك الشخصيات "الوطنية" العازمة
على الترشح في جدوى ذلك بحكم غياب أي أمل لهم في النجاح. كما قد يكون وعد الرئيس
بعدم تغيير القانون الانتخابي مشابها لوعده عندما فعّل الفصل 80 من الدستور
لمواجهة الخطر الداهم وضمان عودة دواليب الدولة للاشتغال بصورة طبيعية، ثم حوّل
"حالة الاستثناء" إلى مرحلة تأسيسية للنظام الجديد.
إن
ربط جبهة الخلاص بين مشاركتها في الانتخابات الرئاسية وبين قدرتها على تغيير
الواقع السياسي الحالي هو صياغة "ديبلوماسية" لقرار نهائي بعدم تقديم
مرشح، ذلك أن الصياغة "الصلبة" أو غير المواربة لهذا القرار ستُفقد
الجبهة جزءا من قدرتها على المناورة؛ سواء تجاه السلطة أو تجاه الشخصيات المتنافسة
على وراثة الرئيس وصلاحياته في النظام الرئاسوي الحالي.
فالجبهة
تعلم أنها قد عجزت عن تغيير موازين القوى بينها وبين النظام منذ
"إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021، ولا يوجد أي معطى جديد (في العلاقة
البينية بين قوى المعارضة الجذرية والموالاة النقدية، وفي توجهات السلطة الرافضة
لأية مراجعات أو نقد ذاتي)
قرار عدم تقديم مرشح هو القرار الأكثر عقلانية لجبهة الخلاص، بل هو في نظرنا قرار استراتيجي بصرف النظر عن دوافعه التكتيكية المباشرة. فهذا الخيار سيجعل القواعد الانتخابية لمكوّنات الجبهة في موضع الترجيح بين مرشّحين من داخل المنظومة ذاتها التي تتحالف نواتها الصلبة حاليا مع الرئيس قيس سعيد، بعدما تحالفت في مرحلة سابقة مع حركة النهضة (في إطار سياسة التوافق بين الحركة ونداء تونس). ولكنه قرار قد يكون ذا كلفة عالية
يوجب على المواطن العادي تصديق قدرة الجبهة في أشهر
معدودات على تحقيق ما عجزت عنه في سنوات، كما لا يوجد في خطاب الجبهة من المراجعات
والنقد الذاتي أو من اجتراح البدائل الاقتصادية والاجتماعية ما يوجب على التونسيين
تصديق قدرة مكوناتها على الحكم بصورة مختلفة عن خياراتها السابقة.
لعل
الأهم من ذلك كله هو علم الجبهة أنّ الأغلب الأعم من الشخصيات العازمة على الترشح
هم إما من المنظومة القديمة أو من هوامشها الوظيفية قبل الثورة وبعدها. وبحكم عدم
"تطبيع" أغلب النخب التونسية مع المكوّن "النهضوي" في الحكم -بل
حتى في المعارضة- وعدم الاعتراف به بصورة مبدئية غير قابلة للارتداد، وبحكم وجود
دعم إقليمي ودولي لهذا التوجه في المرحلة الحالية، فإن أقصى ما تطمح إليه النهضة
(باعتبارها نواة جبهة الخلاص) هو الحصول على عرض سياسي (من السلطة أو ممن يعارضها
بصورة جدية) يخرجها من دائرة الاستهداف الأمني والقضائي؛ دون أن يعيدها إلى مركز
السلطة أو حتى إلى مركز الحقل السياسي على الأقل في المدى المنظور.
بحكم
تواصل الصراعات البينية التي تشمل أغلب أطياف المعارضة وتمنعها من تقديم مرشح
توافقي، فإن قرار عدم تقديم مرشح هو القرار الأكثر عقلانية لجبهة الخلاص، بل هو في
نظرنا قرار استراتيجي بصرف النظر عن دوافعه التكتيكية المباشرة. فهذا الخيار سيجعل
القواعد الانتخابية لمكوّنات الجبهة في موضع الترجيح بين مرشّحين من داخل المنظومة
ذاتها التي تتحالف نواتها الصلبة حاليا مع الرئيس قيس سعيد، بعدما تحالفت في مرحلة
سابقة مع حركة النهضة (في إطار سياسة التوافق بين الحركة ونداء تونس). ولكنه قرار
قد يكون ذا كلفة عالية في صورة عدم الوصول إلى تسويات سياسية مع الرئيس قبل
الانتخابات. فكل الدلائل الآن-وهنا تشير إلى أنه سيفوز بعهدة رئاسية ثانية، وهو ما
يعني حصول الرئيس على "تفويض شعبي" لمواصلة مشروعه السياسي القائم على
إنهاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة -خاصة الأحزاب- وما يعنيه ذلك من هيمنة الحلول
الأمنية-القضائية للصراعات السياسية وللانقسامات الاجتماعية ولتضارب المصالح؛ التي
لا يخلو منها أي نظام سياسي بصرف النظر عن الوحدة المتخيَّلة التي يُروّج لها "التأسيس
الثوري الجديد" لاحتكار شرعية تمثيل "الإرادة الشعبية".
twitter.com/adel_arabi21