لا يكاد يمر يوم
من الأيام لا نسمع فيه أو نقرأ شيئا عن
الوحدة الوطنية
الفلسطينية وضرورتها. والحق، أن وحدة أي شعب أمام عدوه هي أقوى الأسلحة في مواجهة هذا العدو، فتلك بديهية لا
نقاش فيها، ولا تحتاج إلى براهين.
في حقبة النضال
الفلسطيني ما قبل أوسلو، كانت الوحدة الوطنية الفلسطينية تعني توافق الكلّ
الفلسطيني على الميثاق الوطني الفلسطيني وتطبيقاته، ولا نكاد نجد أحدا أو فصيلا أو
جماعة أو مجموعة لم تعلن التزامها بالميثاق الوطني الفلسطيني، وكانت الخلافات في
الصف الفلسطيني تدور حول الوسائل النضالية والمرجعيات الفكرية والتحالفات، وكان
هذا مفهوما وقابلا للنقاش، وكان قابلا للاستيعاب. ولم تضق الحالة الفلسطينية على
تعقيداتها الفريدة؛ ذرعا بهذا التنوع وهذه الخلافات، وهي تواجه عدوا رئيسيا مُجمَعا
على عدائه، بل نُظِرَ إلى هذا التنوع والاختلاف كأحد ميزات الشعب الفلسطيني وقدرته
على التعايش، وتوظيف كل الجهود والقوى والمشارب والمرجعيات الفكرية بمرونة مقدّرة
ومطلوبة. وربما لهذا السبب كانت هذه الخلافات "سلمية ديمقراطية" (باستثناءات
قليلة ذهبت إلى العنف، سرعان ما كان يتم تطويقها ووأدها) ولا تفسد للود قضية، فكل
طرف في الخلاف كان يعرف أنه في النهاية يقف مع المخالف له على أرضية واحدة، ويؤمن
بالرواية نفسها عن الصراع مع العدو، ويسعى إلى الهدف ذاته مع الأطراف
الفلسطينية كافة.
بهذا الفهم، تعايشت كل
الفصائل الشعب الفلسطيني وقواه الحية، وخاضت معاركها معا وجنبا إلى جنب،
ضد العدو المشترك تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب
الفلسطيني، بصرف النظر عن حجم مشاركة هذا الفصيل أو ذاك، أو شطط هذا الفصيل أو
ذاك. فلا خلاف على الهدف ولا خلاف على الرواية. ومن نافلة القول بأن مطلب توحيد
الوسائل والتكتيكات والمرجعيات، لم يكن مطروحا بالنظر إلى أنه مطلب غير واقعي لا
يمكن تحقيقه، وباعتبار أن من يرفعه إنما يريد وضع العصي في دواليب الوحدة الوطنية
إن لم يكن معاديا لها.
لكن هذه الحالة
(الوحدوية) التي حافظت على قيادة موحدة (ولو بالحد الأدنى) تحت مظلة منظمة التحرير
الفلسطينية، وخلقت مؤسسات سياسية ونقابية واقتصادية واجتماعية وثقافية جامعة للكلّ
الفلسطيني؛ أصيبت في مقتل مع خروج جزء من القيادة الفلسطينية على الثوابت المُجمع
عليها حين ألقت سلاحها جانبا، وذهبت في مسار المفاوضات الذي أوصلنا إلى أوسلو
واتفاقياتها المشؤومة، فانقسمت الرواية الفلسطينية، منذ تلك اللحظة البائسة في
تاريخ القضية الفلسطينبة، انقساما يصح فيه وصف النكبة الثانية. فإذا كنا قد خسرنا
جزءا من أرض فلسطين في نكبة ١٩٤٨ إلا أن الشعب الفلسطيتي بقي شعبا واحدا، له رواية
واحدة ويعمل لأهداف واحدة، لكننا في "نكبة أوسلو" خسرنا تلك الحالة
الوحدوية بذهاب القيادة المتنفذة في منظمة التحرير إلى السلام مع العدو والتسليم
بروايته والاعتراف بوجوده، ثم بالتنسيق الأمني معه، ما حوّل الفدائي من حارس للحلم
الفلسطيني بالتحرير والعودة، إلى حارس لسلطة تلاحق أبناء شعبها وتسجنهم وتضطهدهم،
وتكبت أي تحرك ضد العدو حتى لو وصل الأمر بها إلى قتل المناضلين واغتيالهم خدمة
لمشروع أوسلو.
رفع شعار الوحدة الوطنية مع من ينتهجون نهج أوسلو، لا يعدو أن يكون شعارا رغائبيا بعيدا عن الواقع، مهما كان مقدار حسن النية الذي يقف خلفه. ولعل تبديد عقدين من الزمن في محاولات العودة إلى تلك الوحدة، وفشل تلك المحاولات لا تسعف في إبقاء أمل في عودة أصحاب نهج أوسلو عن نهجهم، خاصة بعد مواقفهم من عدوان الإبادة والتهجير، والحصار والتجويع الجاري على غزة والضفة، منذ ستة أشهر وحتى الآن.
هكذا صار هناك من
يعتبر علاقته مع العدو مقدسة، ومن يعتبر أن أي علاقة له مع أي مناضل من أبناء شعبه
علاقة مدنسة، بل يسارع بكل حماسة إلى التعزية بقتلى العدو وموتى قادته، ويَفْجُرُ
في استنكار أي عمل ضد العدو ويصفه بالإرهاب، ويصمت أمام تغول المستوطنين وتمدد
الاستيطان في كل أنحاء الضفة الغربية، ويتخاذل في قضية الأسرى والمقدسات والقدس،
ناهيك عما أفرزته حالة أوسلو من اختطاف لقيادة أكبر فصيل فلسطيني، وتوظيف تاريخه
وتضحياته في خدمة سلطة همها قمع شعبها وتطويعه والهيمنة على قراره، وناهيك عما
قامت به هذه السلطة من إشاعة الفساد المالي والأخلاقي، ومن تدمير لمنظمة التحرير
الفلسطينة ومؤسساتها، وتغيير بنيتها وجعلها أشبه ما تكون بجمعية هامشية خارج مسعى
النضال الفلسطيني، حتى صارت المنظمة ملحقة بمكتب الرئيس، يحييها متى يشاء ويميتها
متى يشاء، ويضع فيها من يشاء ويُقصي منها من يشاء، ويرفع لافتتها ولافتة شرعيتها
في وجه أي محاولة للوحدة أو الإصلاح، وحتى باتت منظمة التحرير الفلسطينية
والمشاركة فيها عنوانا من عناوين الانقسام والإقصاء والفساد والخضوع لإرادة
المتنفذين في السلطة، المحكومة بسقف اتفاقيات أوسلو أو بما هو أدنى من هذا السقف،
وصارت هذه السلطة ونهجها مبررا للنظام الرسمي العربي في التخلي عن واجبه تجاه
القضية الفلسطينية، تحت شعار "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، فخسرت
القضية الفلسطينية تضامن الشعوب العربية، وخسرت اهتمام شعوب العالم، ودعم أحراره في
حمأة الركض نحو سلام الواهمين، فكان أن تقزمت القضية لتلائم مقاس قيادة السلطة
وضيق صدرها وأفقها، وخدمة ارتباطاتها والتزاماتها بمفرزات أوسلو وفسادها الذي تزكم
رائحته الأنوف.
غير أن حالة
نضالية فلسطينية أفرزتها الانتفاضة الأولى وتصاعدت مع الانتفاضة الثانية، وشاركت
فيها كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل التي وُجدت خارجها، وتجذرت في
صفوف الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، واستطاعت خلق حالة مفارقة لحالة السلطة
وحالة عجز منظمة التحرير بنسختها القائمة ما بعد أوسلو؛ حالة تختلف جذريا بل
تتناقض بنيويا مع نهج أوسلو المتحكم بالسلطة والمنظمة، الذي صار همه استجداء
المقاصة المالية المذلّة مع ما لحق ذلك من تكريس عقيدة دايتون، وتغيير المناهج
الدراسية والخطاب الثقافي والعبث بالميثاق الوطني والقفز عنه، وإصدار القوانين
والقرارات الرئاسية المكممة للأفواه والمعطلة لأي إمكانية ديمقراطية في التغيير أو
الإصلاح.
إن رفع شعار
الوحدة الوطنية مع من ينتهجون نهج أوسلو، لا يعدو أن يكون شعارا رغائبيا بعيدا عن
الواقع، مهما كان مقدار حسن النية الذي يقف خلفه. ولعل تبديد عقدين من الزمن في
محاولات العودة إلى تلك الوحدة وفشل تلك المحاولات، لا تسعف في إبقاء أمل في عودة
أصحاب نهج أوسلو عن نهجهم، خاصة بعد مواقفهم من عدوان الإبادة والتهجير، والحصار
والتجويع الجاري على غزة والضفة، منذ ستة أشهر وحتى الآن، وهي مواقف لا ترتقي إلى
ما يقوله ويفعله ناشط سياسي أوروبي، داعم لقضيتنا في مدينة أوروبية نائية.
وإذا كان من وحدة، نأمل أن تقوم بعد كل ما شهدناه من ويلات أوسلو وبعد حرب الإبادة والتهجير، فهي تلك
الوحدة التي تقوم على الرواية الفلسطينية عن الصراع، وعمادها أن فلسطين كل فلسطين
لنا وأن عدونا محتل أجنبيّ غاصب، يريد محونا جميعا من التاريخ والجغرافيا، وأن
حقنا في المقاومة بكل الأشكال والسبل، هو حق مكفول ولا يمكن التخلي عنه، وأن وحدتنا
تقوم على موقع كل منا كأفراد وقوى في هذه المقاومة والمشاركة فيها.
إن الوحدة
المأمولة، هي وحدة الرواية والهدف والمصير. وحدة تقوم على "اللقاء فوق أرض
المعركة"، كما كانت حركة فتح تقول في شعارها العظيم، قبل اختطافها وتفريغ
مبادئها وشعاراتها من محتواها النضالي. وتلك وحدة رأيناها في الانتفاضة الأولى من
خلال القيادة الموحدة للانتفاضة الأولى، قبل الغدر بها وإفشال تجربتها بنهج
المفاوضات واتفاقية أوسلو،
دعم مبادرة كهذه، يحتم عليها أن تحرص على أن تكون إسهاما في قطع الطريق على المؤامرات والمخاطر التي تتربص بالشعب الفلسطيني وقضيته، وعملا على استعادة منظمة التحرير لدورها وإعادة بنائها على أسس وطنية ديمقراطية واضحة، للمحافظة على إرثها النضالي وشرعيتها وتمثيلها، بعيدا عن حقبة أوسلو والتزاماتها، وافتراقا عن قيادتها التي جُرِّبَتْ على مدى ثلاثين عاما، فأودت القضية وشعبها إلى المهالك.
وهي وحدة مستقرة في وجدان الشعب الفلسطيني نرى تجلياتها
اليوم على أرض غزة، ونرى إرهاصاتها بين مناضلي الضفة بكل أسمائهم وتنوعاتهم،
ونراها في التعبيرات الشعبية، من خلال ما نشهده في مسيرات تشييع الشهداء
والتظاهرات والاعتصامات الجماهيرية واستطلاعات الرأي، بما يعني أن وحدة كهذه وحدة
مطلوبة وممكنة، ولا بد أن تجد طريقها إلى الواقع.
والمأمول اليوم، ومع تنادي المئات من الفعاليات والشخصيات الفلسطينية لعقد مؤتمر وطني فلسطيني؛ أن
يكون هذا النداء في سياق البحث والسعي لإيجاد وسيلة قادرة على تخطي معوقات قيام
وحدة وطنية فلسطينية، على أساس الميثاق الوطني الفلسطيني وحق تقرير المصير وانتهاج
المقاومة، بصرف النظر عن انتماءات أعضاء هذا المؤتمر والداعين إليه، وبصرف النظر
عن مرجعياتهم الفكرية ووسائلهم النضالية، ما داموا يحملون الرواية الفلسطينية
ذاتها عن الصراع، ويؤمنون بحق شعبنا في المقاومة بكل أشكالها، وينخرطون في هذه
المقاومة كل بما يستطيع، وينبذون نهج أوسلو الذي يتقاطع مع رواية العدو الهادفة
لانقسام دائم بين صفوف شعبنا.
إن دعم مبادرة كهذه، يحتم عليها أن تحرص على أن تكون إسهاما في قطع الطريق على المؤامرات والمخاطر التي تتربص بالشعب الفلسطيني وقضيته، وعملا على استعادة منظمة التحرير لدورها وإعادة بنائها على أسس وطنية ديمقراطية واضحة، للمحافظة على إرثها النضالي وشرعيتها وتمثيلها، بعيدا عن حقبة أوسلو والتزاماتها، وافتراقا عن قيادتها التي جُرِّبَتْ على مدى ثلاثين عاما، فأودت القضية وشعبها إلى المهالك، وما كان لقيادة
كهذه أن تكون جزءا من قيادة موحّدة للشعب الفلسطيني.