يقترب العدوان الإسرائيلي على غزة من شهره
السابع، وبقدر ما خلفه من جرائم ومآسي، بقدر ما فضح وعرى الكيان الصهيوني
والمتواطئين والمبررين له، بقدر ما أيقض ربما ضمائر البعض، أو كشف الحقائق أمامهم،
وأمام العالم.
ومن هؤلاء الكاتب والروائي الفرنسي ـ
المغربي،
الطاهر بن جلون، الذي كان نشر مقالا في أكتوبر الماضي، في مجلة
"لوبوان" اليمينية الفرنسية ينتقد فيه "حماس" وهجومها
"طوفان الأقصى" على إسرائيل، مما أثار ردود أفعال غاضبة عليه، وخاصة في
مسقط رأسه المغرب.
لكن بن جلون، الحاصل على جائرة
"غونكور" الفرنسية (أكبر جائزة أدبية فرنسية)، عاد قبل أيام في حوار مع
وكالة "الأناضول" التركية إلى التصريح بأن "الإسرائيليين غير
مهتمين بالسلام"، وأن "ما يحدث في قطاع غزة مأساة، وأن خطة رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وجيشه هي مسح كل
الفلسطينيين عن الوجود".
وأكد بن جلون أن "ما يحدث في غزة هو
ألم بالنسبة لنا، صحيح أنني أدنت علناً هجوم حماس في 7 أكتوبر من خلال مقال، لكن
الشيء الفظيع هو أن إسرائيل تمنع وصول المساعدات الغذائية منذ 6 أشهر لقتل
المدنيين والأطفال، وقبل كل شيء تجويع الشعب الفلسطيني".
الطاهر بن جلون والإبادة الإسرائيلية
وشدد بن جلون على أن "الإسرائيليين لا
يريدون أن تُستخدم كلمة الإبادة الجماعية لوصف أي شيء آخر غير الإبادة الجماعية
لليهود، وعندما تقصف مستشفى أو مدرسة أو قرية بها عائلات نائمة وتذبح الجميع هذه
أيضا إبادة جماعية".
وقال بن جلون "كتبت قصائد ومسرحيات عن
فلسطين، ونشرت كتابا صغيرا في إيطاليا بعنوان الصرخة لأهل غزة، لأن البيئة لم تكن
مناسبة للنشر في
فرنسا ـ (وهذا يقول ما يقول عن فرنسا)ـ لقد شرحت 7 أكتوبر فأهانني
أصدقائي العرب بسبب كتابتي عن هجمات حماس، ومن ناحية أخرى عندما نشرت نصوصي عن
الجيش الإسرائيلي، هاجمني أصدقائي اليهود واتهمت بمعاداة السامية".
وأشار إلى أنه كتب "رسالة مفتوحة إلى
نتنياهو قبل شهر، وقد نشرت في عدة صحف".
وأوضح "قلت لنتنياهو لقد خسرت
الحرب
لأنه، حتى لو قتل الجميع، فإن فلسطين ستبقى هناك، والشعب الفلسطيني سيبقى موجودا
إلى الأبد، فاتهمتني إحدى الصحف بأنني معاد للسامية، وكتبت شابة يهودية مقالة في
مجلة "لوبوان" (الفرنسية) أهانتني وشهرت بيَّ".
الطاهر بن جلون: "ما يحدث في غزة هو ألم بالنسبة لنا، صحيح أنني أدنت علناً هجوم حماس في 7 أكتوبر من خلال مقال، لكن الشيء الفظيع هو أن إسرائيل تمنع وصول المساعدات الغذائية منذ 6 أشهر لقتل المدنيين والأطفال، وقبل كل شيء تجويع الشعب الفلسطيني".
وتبدو مفارقة هنا فمجلة "لوبوان"
نفسها، هي التي رحبت ببن جلون ومقاله الناقد لـ"حماس" في أكتوبر، وهي
المجلة اليمينية، التي وإن كانت معروفة بتوجهها الصهيوني، فقد برزت كواحدة من أكثر
الأذرع الإعلامية بجاحة وبشاعة في تبرير جرائم الإبادة الإسرائيلية في غزة.
كمال داود.. التبرير والاعتذارية لإسرائيل
وفي المجلة نفسها يكتب كمال داود الكاتب
الجزائري، الذي منحه ماكرون قبل سنوات قليلة الجنسية الفرنسية بقرار رئاسي رغم أنه
لم يقم بشكل مستمر في فرنسا (!)، عمودا أسبوعيا، لا يتوقف فيه
بــ"جمبازيات" لغوية في "المزايدة والمناقصة" في التبرير والاعتذارية
لإسرائيل، مع محاولة تغليف مقالاته بـ"دموع تمساحية" وعن معاداة
السامية، ومهاجمة العرب والمسلمين (بالتعميم)، وما يصفه بـ"العالم الذي يسمى
عربيا"، رغم أنه لا يتوانى في " التكسب والارتزاق" بالكتابة بتهجم
وادعائية وبعدم مصداقية عن العرب وهذا العالم العربي والإسلامي عندما يستكتبه
الإعلام الغربي لذلك!
موقف كمال داود لم يكن ولم يعد مفاجئا، منذ
مقاله في 2015 عن “عدم تضامنه مع فلسطين”، والذي فتح له بالتزامن مع نجاح روايته
"ميرسو ..تحقيق مضاد" باب إرضاء الدوائر الصهيونية (خاصة الإعلامية
والأدبية) في فرنسا لغرض مرتبط بتسويقه وتلميعه. وهذا ما حدث فعلا، مع تقاطر
الجزائز عليه، واستقطابه من قبل مجلة "لوبوان" اليمينية، وتحوله خلال
فترة قياسية، إلى "الولد المدلل" للإعلام الفرنسي ومن خلاله الغربي!
ومنذ أكتوبر 2023 لا يتوقف كمال داود عن
تكرار أسطوانة معاداة السامية، التي بدأها بمقال اعتذاري، تمسحي تحت عنوان "رسالة
لإسرائيلي مجهول" ذكر فيه "أنه تربى على كراهية (الإسرائيلي) لكنه بذل
مجهودا ليفهمه".
وكتب "لقد استغرق الأمر مني وقتًا
طويلاً حتى أتمكن من مقابلة شعبكم ومحاولة فهم تاريخكم. وأعتقد، وربما أخطئ، أنّنا
لا نفهم في بلادنا غضبك من العيش بعد قرون من محاولات الإبادة. ولا نفهم شيئًا من
معاناتك القديمة أو الثقل المروع للأرض التي استعادتها في أخيراً. ولا نفهم أنّك
في حربك تريد الدفاع عن نفسك ضد الموت المطلق".
ويمضي داود ليقول: "من ناحية أخرى، في
بلادنا، لا نتذكر سوى نهب الأراضي، والاستسلام، والشعب الملعون، بينما أنتم شعب
استيقظ أخيرًا. ولم نر فيكم سوى استعمار، وفي السنوات الأخيرة، ملحمة عتيقة للشعب
المختار الذي يرفض قانون الإله الذي انحاز إلى جانبنا".
الإسلاموي السابق الذي أصبح علمانيا شرسا
كمال داود، (الإسلاموي السابق، إمام قريته
باعترافه!)، والذي أصبح يقدم نفسه "كلائكي" (علماني على الطريقة
الفرنسية) شرس، إحالته واضحة هنا عن "الشعب المختار واستعادة الأرض بعد
قرون" إلى "أن فلسطين المحتلة هي أرض الميعاد التي وعد الله (أي إله
بمنطق داود؟!) اليهود بها" وقد استعادوها على حساب الشعب الفلسطيني باحتلال
إرهابي موثق من العصابات الصهيونية، التي جاءت في غالبيتها من أوروبا، والتي
"لم تكن تؤمن بالله، ولكنها تؤمن أنه وعدها بأرض الميعاد!"، كما قال
المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، الذي يزايد عليه كمال داود وعلى غيره من اليهود الناقدين
للكيان الصهيوني، بـ"فزاعة معاداة السامية".
وكأمثاله من هؤلاء اليهود طبعا، وعكس كمال
داود، لا يمكن أن يجد إيلان بابي ورأيه كمؤرخ عارف، وجندي سابق في الجيش
الإسرائيلي، عن "إجرام ونهاية المشروع الاحتلالي الاستيطاني الصهيوني"
مكانا له في مجلة "لوبوان"، وغيرها من القطاع الواسع من وسائل الإعلام
الفرنسية.
أحفاد الشعب المضطَهد يتحولون لمضطهدِين
ولعل من أبرز هؤلاء الفيلسوف وعالم الاجتماع
الفرنسي اليهودي الشهير، إدغار موران، البالغ من العمر (102 عاما)، الذي استنكر في
ملتقى أدبي في مدينة مراكش المغربية في فبراير الماضي "المأساة المروعة”
الجارية في غزة وصمت العالم".
وقال موران خلال كلمته: "أشعر بالغضب
لرؤية أولئك الذين يمثلون أحفاد شعب تعرض للاضطهاد لعدة قرون لأسباب دينية أو
عنصرية، والذين هم اليوم صناع القرار في دولة إسرائيل، لا يقومون فقط باستعمار شعب
وطرده جزئيًا من أرضه، بل يريدون كذلك طرده إلى الأبد".
وعرف موران المتزوج بالباحثة المغربية صباح
أبو السلام، بدعمه لحق الشعب الفلسطيني، وانتقاده لإسرائيل مما أثار حقد اللوبي
الصهيوني عليه.
ولا يمكن لكمال داود وللإعلام الفرنسي
المحسوب على اليمين الذي توطأ (كما هو موثق) مع الاحتلال النازي لفرنسا المزايدة
على إدغار موران (ولقبه الأصلي نحوم) الذي وجدت عائلته اليهودية الفارة من محاكم
التفتيش في إسبانيا ملاذا في مدينة ثيسالونيكا اليونانية خلال الحكم العثماني، قبل
أن يهاجر والد إدغار إلى فرنسا، حيث ولد هناك عام 1921، وحيث حمل السلاح وهو شاب
في العشرينات ضد الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.. فيما كان
اليمين الفرنسي المتطرف المعادي تاريخيا لليهود، عميلا للاحتلال النازي لفرنسا، ومتواطئا
معه في إبادة والتنكيل باليهود في فرنسا، وحتى في الجزائر المستعمرة آنذاك.
أسطوانة "معاداة السامية"
في المقابل ساهم مسجد باريس، الذي يشرف عليه
جزائريون، حينها، في إنقاذ وحماية العديد من اليهود، بإعطائهم وثائق تقول إنهم
مسلمون وليسوا يهودا! وكذلك الشأن في الجزائر، عندما تضامن وساعد المسلمون
المضطهدون فيها، اليهود الذين كانوا يتعرضون لانتقام شديد من قبل حكومة
"فيشي" الفرنسية العميلة للنازيين حينها، بلغ حد نزع الجنسية الفرنسية
منهم، ومنعهم من الدراسة والعمل، مثلما تروي الكاتبة الفرنسية هيلين سيكسو، وهي
يهودية تؤكد أن اسم عائلتها مشتق من "سكسكو" أي "الكسكي"
بالأمازيغية، وهي من مواليد مدينة وهران (بغرب الجزائر)، والتي يعرفها جيدا ويقيم
فيها كمال داود، والتي ترد عليه بالشواهد التاريخية عن استقبالها ومدن جزائرية
أخرى لليهود الفارين من بطش محاكم التفتيش المسيحية في إسبانيا.. بينما تزايد
"لوبوان" ومن على شاكلتها من إعلام فرنسي بالثقافة اليهودية ـ المسيحية!
وهذه نماذج ونماذج أخرى ترد على كمال داود
ومزايداته بأسطوانة "معاداة السامية"، لتؤكد أن المشكلة هي ليست مع
اليهود إنما مع احتلال إجرامي صهيوني عنصري (يدعمه تيار مسيحي صهيوني معاد في
الحقيقة لليهود!)، أدانه الكثير من اليهود الشرفاء، ورفضوا أن يستمر إجرامه منذ
عقود مثلما يحدث في غزة باسمهم كيهود، وباستغلال مظلومية "الهولوكست"
النازي في حق اليهود، مثلما عبَّر عنه المخرج البريطاني جوناثان غليزر بكثير من
التأثر، في إدانته للهجمات الإسرائيلية على غزة، خلال خطابه فوزه مؤخرا، بجائزة
أوسكار عن فيلمه الذي تناول "الهولوكوست".
الإسلاموي السابق مروجا للإسلاموفوبيا!
وقد ارتبط اسم كمال داود (الإسلاموي
السابق!) بفضيحة مقاله عن "هجوم مدينة كولون الألمانية" في ليلة رأس سنة
2016، والذي زعم فيه أن هجوما جماعيا جنسيا (شمل اغتصابات) لعشرات اللاجئين
ومهاجرين مسلمين ضد ألمانيات، وأن ذلك يعبر عن "البؤس الجنسي للمسلمين
ونظرتهم للمرأة". واللافت أن مجموعة من المثقفين الغربيين انتقدوا في عريضة
مقال دواد واعتبروه ترويجا لطروحات إسلاموفوبية عنصرية يشجعها ويرعاها اليمين
العنصري (المعادي تاريخيا لليهود). وقد اتضح لاحقا أن ما طرحه كمال داود لم تكن
إلا أكاذيب وأن تحقيقا ألمانيا كشف عن عدم وجود أية اعتداءات جنسية تلك الليلة!
ورغم هذا واصل كمال داود العزف على هذا
الوتر، والحديث عن المرأة في العالم العربي والإسلامي ـ (بينما لا يهزه وضع النساء
الكارثي جراء الهولوكست الإسرائيلي في غزة!)ـ رغم أنه لا يمكن أن يكون كمال داود مرجعا له مصداقية هنا، مثلما كتب الكاتب
الفرنسي في أكتوبر 2022 في مقاله في موقعي "لوسوار" و"أفريك
أزي" عنونه بـ" عندما ضرب كامل داود صديق ماكرون زوجته السابقة"!،
وتحدث فيه عن القضية التي رفعتها زوجة كمال داود السابقة التي تتهمه فيها بضربها
بعصا!
*كاتب جزائري
مقيم في لندن