خلال الحرب الحالية على قطاع غزة، قال كاتب هذه السطور إنه ينبغي اعتماد
مصادر
المقاومة الفلسطينية وليس مصادر
الاحتلال بخصوص بعض تفاصيل الحرب، فكان أن
رفض بعض القراء هذا المنطق من باب محاكمة كل وأي مصدر وعدم التسليم لأي طرف بكامل روايته. لا شك أن هذا تقييم نظري سليم لا غبار عليه ولا يمكن رفضه بالمطلق، إلا
أنه من الناحية العملية فنحن لسنا إزاء دولة مثل الولايات المتحدة وهي تغزو العراق
أو فيتنام، وإنما إزاء مقاومة في مواجهة احتلال، فلا نقاش في مشروعيتها أولا، وثانيا
ثمة تاريخ طويل لنا مع الاحتلال والمقاومة وبروباغندا الأول مقابل مصداقية
الثانية.
ذلك مثال يبدو لي مهما في التفريق بين مشروعية أمر وصحته من الناحية
النظرية، ومدى القدرة على تطبيقه بشكل حرفي على الواقع عمليا. ومثل ذلك يمكن أن
يقال في بعض
النقد الموجه للمقاومة خلال الحرب -وليس على إطلاقه- والمطالبة بذلك،
ذلك أن توقيت النقد ليس أمرا تفصيليا أو هامشيا هنا، بل هو محدد أساسي في تقييم
الفعل ومآلاته.
وقبل أن نسأل أو نتساءل: هل ينبغي أن يكون ثمة نقد للمقاومة خلال الحرب،
لنتفق أولا أن من يصح أن يقيم حوارا أو نقاشا من هذا النوع هو من يقف على أرضية
المقاومة ابتداء، أي من يؤمن بحق الشعب في المقاومة -بل بواجبه- وبمشروعية عمل
فصائلها، أما من يقف من المقاومة موقف الرفض فضلا عن التهجم ويرى الفصائل في مقام
الخصم/العدو داعيا للاستسلام و/أو تسليم قيادات الفصائل والأسرى لديهم للاحتلال
و/أو نفي القيادات خارج غزة وفلسطين وأمثالها من "الحلول" الهلامية غير
الواقعية ولا المفيدة (اللهم إلا الانتقام من المقاومة)، فهؤلاء خارج النقاش أساسا.
يبقى أن التوقيت أمر جوهري ومؤثر في مشروعية الأمر/النقد وكذلك في أسلوبه وبالتالي نتائجه، فنحن في حالة حرب ترقى للإبادة الجماعية، وبالتالي ينبغي أن يكون لكل كلمة حسابها من قبل المقاومة وكذلك من قبل الجميع
وعليه، فإن الواقفين على أرضية المقاومة يريدون من النقد معنى النصح بغية
تسديد المواقف وتحسين مآلات الحرب والتخفيف عن الناس، وغيرها من الأهداف المشروعة
والمقبولة. نظريا، لا مشكلة في النقد فهو حق للجميع بل واجب على من يمتلك مفاتيحه،
فتصويب عمل المقاومة لتعظيم المكاسب وتقليل الخسائر وحماية الناس وحقن الدماء
أهداف يشترك بها المقاومون مع أصحاب الرأي والرؤية.
المقاومة عمل بشري وفصائلها كيانات يقودها بشر، فهي غير منزهة عن الخطأ
والنسيان والحسابات غير الدقيقة، وغير ذلك مما يشوب أي عمل بشري، كما أن الأسئلة
المطروحة والأهداف المنشودة مشروعة ووجيهة على الحقيقة، فضلا عن أن النصح يمكن أن
يفيد في التوجيه والتسديد وسد بعض الثغرات وتدارك بعض الأخطاء.
ولكن، ومرة أخرى، يبقى أن التوقيت أمر جوهري ومؤثر في مشروعية الأمر/النقد
وكذلك في أسلوبه وبالتالي نتائجه، فنحن في حالة حرب ترقى للإبادة الجماعية،
وبالتالي ينبغي أن يكون لكل كلمة حسابها من قبل المقاومة وكذلك من قبل الجميع.
وبافتراض أن ثمة ما لا يمكن تأجيله من نقد أو توجيه من زاوية تأثيره على
أحد أو بعض مخرجات الحرب ومآلاتها، بحيث ينقلب في هذه الحالة من حق إلى واجب،
فيمكن فعل ذلك وينبغي بالشكل الأنسب والطريقة الأصوب. وقد رأينا كيف أن المقاومة،
في شقّيها العسكري والسياسي، قد تركت بعضا من الخطاب ولم تعد له واعترفت ببعض
الأخطاء في الخطاب والممارسة، وتداركت بعضها، دون الحاجة للتفصيل في الأمثلة التي
يعرفها كل متابع جيد.
أما ما دون ذلك من تقييم عام ونقد غير مستعجل ولا ينبني عليه فعل مباشر
وقريب، فلا فائدة كبيرة ترجى من تعجيله الآن خلال الحرب، بل قد يكون له بعض المضار
مثل إثارة الجدل وربما البلبلة غير المقصودة، وتخذيل الحاضنة الشعبية والمدنيين
عموما، خصوصا ونحن أمام حرب مختلفة هذه المرة؛ خلقت واقعا جديدا وتحديات غير
مسبوقة في القطاع وعلى صعيد القضية الفلسطينية بشكل عام.
ويضاف لهذا المعنى أن الاحتلال -ومن معه وخلفه- لم يتركوا مساحة أو خيارات
مقبولة للمقاومة الفلسطينية في المفاوضات الجارية حاليا، فما يعرضونه هو وقف مؤقت
فقط لإطلاق النار بغية استرداد الأسرى "الإسرائيليين" ثم العودة لقتل
المدنيين مرة أخرى. هنا تتجلى سذاجة من يدعون حركة حماس للاستسلام وتسليم قادتها
والأسرى وما أشبه من أوهام على أنها ستكون مخرجا منطقيا للحرب، دون أن يخبرونا كيف
سيكون ذلك وبأي منطق أو قوة. وعليه، فإن النقاشات المتعلقة بأصل المعركة، مثل
توقيتها وأسلوبها وأهدافها ودرجتها ومداها وإعداد الشعب لها وغير ذلك من الأسئلة
المهمة عموما، تصبح الآن خلال الحرب جهدا فكريا لا فائدة عملية ترجى منه، بل أقرب
لحالة من الترف الفكري الذي لا نملك رفاهيته وتثبيت المواقف التي لا نحتاجها.
تبقى، أخيرا، إشارتان مهمتان:
لا ينبغي لأي تقييم أو نقد أن يوصلنا، ضمنا أو صراحة، لتبرئة الاحتلال من الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها. إذ ليس علينا قبول الإبادة كرد متوقع أو مقبول على المقاومة، وبالتالي تحميل المقاومة -وليس الاحتلال- مسؤولية الإبادة التي يرتكبها الاحتلال
الأولى، لا ينبغي لأي تقييم أو نقد أن يوصلنا، ضمنا أو صراحة، لتبرئة
الاحتلال من
الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها. إذ ليس علينا قبول الإبادة كرد متوقع
أو مقبول على المقاومة، وبالتالي تحميل المقاومة -وليس الاحتلال- مسؤولية الإبادة
التي يرتكبها الاحتلال، رغم اتفاقنا على واجب المقاومة المتمثل في حساب ردات الفعل
والمآلات والاستعداد لكل السيناريوهات المحتملة، بحيث لا تنتقل المقاومة من فعل
مجدٍ إلى عمل منفلت أو انتحاري.
والثانية، المقاومة حق وواجب، في شكلها المبادر وليس فقط الدفاعي الصرف،
وعليه فالنقاش ممكن ومطلوب في التفاصيل المتعلقة بالتوقيت والأسلوب والحجم
والاستعدادات وما إلى ذلك، ولكن ليس في أصل مشروعية المقاومة.
في الخلاصة، حتى يؤتي النقد أكله ويفيد ولا يضر، فإن توقيته وأسلوبه
ووسيلته مهمة جدا بقدر أهمية المضمون، ولذلك فما هو غير مستعجل ولا يؤثر بشكل
مباشر على مسار الحرب والعدوان يمكن بل وينبغي تأجيله لما بعد الحرب. وليس ذلك من
باب "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" بالمنطق الشعبوي، ولا من باب تقديس
المقاومة وتنزيهها عن النقد، وإنما من باب توخي الفائدة وتجنب الضرر، واهتمام
الجميع بالوقوف على ثغره ومساهمته في وقف العدوان وحقن الدماء، وبعد الحرب لكل
حادث حديث، ومجال واسع للتقييم والنقد والنصح والتوجيه وحتى التقريع إن شئنا، فلكل
مقام مقال كما يقال.
twitter.com/saidelhaj