قبل أكثر من عشرين عاما كنت عضوا في مجلس نقابة الصحفيين المصرية، وجاء وفد
صحفي من إحدى الدول الخليجية لزيارة النقابة وبعد الترحيب بالوفد، أخذ نقيب
الصحفيين المصريين يتحدث عن إنجازات النقابة، وعندما ذكر الإنجاز الأول الذي لم
أسمع به من قبل، رحت أراجع حضوري لجلسات المجلس فوجدتني لم أتخلف عن أي منها،
وعندما ذكر الإنجاز الثاني الذي لم أسمع به من قبل أيضا أخذت أنظر إلى من حولي
لأتبين هل سمعوا به من قبل.
وعندما ذكر الإنجاز الثالث الذي أسمع به أيضا سألت الزميل المجاور لي، وكان
كادرا مخضرما في الحزب الوطني الحاكم حينذاك، عن تلك الإنجازات، فهمس لي أنها مفبركة،
لكن علينا ألا نفسد زيارة الوفد الصحفي، ونستعد لسماع الإنجاز الرابع المزعوم.
وبعدها بأيام كنت عند الدكتور مختار، وزير قطاع الأعمال العام وقتها، وحكيت
له ما حدث في النقابة حيث تربطني به صداقة عمل قبل توليه الوزارة باعتباره أستاذا
للاقتصاد، ابتسم قائلا: "وهل هناك سياسي لا يكذب، إن الكذب عامل أساسي في
حديث أي سياسي".
وها هو الدكتور عبد الله النفيسي، أستاذ علم السياسة الكويتي، يقول في عرضه
لحياته بأحد البرامج: "إننا عادة نحسن الظن بالحكام العرب، بينما المفروض أن
نسيء الظن بهم دائما"، كما قال في لقاء عام بعد عدوان إسرائيل على
غزة عام
2008: "لا تصدقوا الحكام العرب ولو تعلقوا بأستار الكعبة".
قرارات تخدير للقمة العربية الإسلامية
لم يعد الأمر قاصرا على الحكام العرب بل امتد إلى حكام الدول الإسلامية أيضا، والذين لم يكتفوا بخذلان أهل غزة فقط بل تآمروا عليها وساهموا في تجويعها، أملا في شق الصف الغزاوى ما بين السكان والمقاومة، وكلما استمرت المقاومة في صمودها كلما زاد غيظ هؤلاء، واستمروا في تعاونهم ليس فقط مع دول الغرب بل ومع إسرائيل مباشرة؛ سعيا لسرعة القضاء على المقاومة
وجاءت أحداث طوفان الأقصى لتثبت بشكل عملي حديث الدكتور النفيسي، ولم يعد
الأمر قاصرا على الحكام العرب بل امتد إلى حكام الدول الإسلامية أيضا، والذين لم يكتفوا
بخذلان أهل غزة فقط بل تآمروا عليها وساهموا في تجويعها، أملا في شق الصف الغزاوى
ما بين السكان والمقاومة، وكلما استمرت
المقاومة في صمودها كلما زاد غيظ هؤلاء، واستمروا
في تعاونهم ليس فقط مع دول الغرب بل ومع إسرائيل مباشرة؛ سعيا لسرعة القضاء على
المقاومة، لا فرق هنا بين موقف الإدارة المصرية أو الإماراتية أو السعودية أو
الأردنية أو غيرها.
واستغل هؤلاء حس الظن لدى الشعوب العربية فعقدوا مؤتمرا لوزراء الخارجية
العربية بعد خمسة أيام من العدوان، واكتفوا بعبارات الشجب كالعادة، ورغم قيام إسرائيل
بفرض حصار على غزة يمنع وصول الطعام والوقود والكهرباء وغيرها بعد يومين من
الطوفان، لم تسمح السلطات المصرية بدخول المساعدات لغزة إلا بعد أسبوعين من
الطوفان وبعدد عشرين شاحنة، بينما كان يدخل غزة قبل الطوفان 500 شاحنة، إلى جانب
نشاط الاقتصاد الغزاوي المنتج للسلع والخدمات حينذاك.
ورغم كثرة عدد الضحايا للقصف الإسرائيلي المستمر ليلا ونهارا فلم تسمح
السلطات المصرية بدخول الجرحى لمصر، إلا بعد ثلاثة أسابيع من العدوان الإسرائيلي
وبأعداد محدودة، ورغم وقف إمداد غزة بالوقود فلم تسمح السلطات المصرية بدخول كميات
قليلة من الوقود إلا بعد مرور شهر وأسبوع من المنع الإسرائيلي.
ولإفساح مزيد من الوقت لإسرائيل أملا في نجاحها في القضاء على المقاومة،
حددت السعودية موعدا للقمة العربية بعد أكثر من شهر من العدوان، ثم دُمجت القمة
العربية مع أخرى إسلامية سمعنا خلالها العديد من الكذب والنفاق، وهي القمة التي لم
يتم تنفيذ أي من توصياتها سواء الخاصة بوقف العدوان او إدخال المساعدات، ثم استمر
الخذلان العربي والإسلامي مستمرا حتى الآن، والاستمرار في تجويع السكان
تعاود الحكومات الغربية نفاقها وخداعها بما تسميه إسقاط المعونات من خلال الجو على سكان غزة، وكأنها ليست هي التي ساندت العدوان وتسببت بهذا القتل والدمار الشامل لنحو خمسة أشهر، وكأنها ليست هي التي سعت لمنع الطعام عن سكان غزة،
عمدا ولإتاحة
المزيد من الوقت لإسرائيل للإجهاز على المقاومة أملا في نفاد عتادها، مع الاستمرار
في التصريحات الكاذبة والمنافقة لخداع الشعوب بادعاء مساندتها للقضية الفلسطينية،
والتي قاموا بتجاهلها حين قاموا بالتطبيع مع إسرائيل وتجهيز آخرون لذلك.
رفض دخول علماء المسلمين بالمساعدات
ورغم المسيرات الشعبية التي تحركت في العديد من العواصم والمدن الأوروبية
والأمريكية والمطالبة بوقف العدوان على غزة، فلم يسمح الحكام العرب بشيء من ذلك في
بلادهم، ولا حتى بصلاة الغائب على الشهداء في المساجد، حتى عندما طلب اتحاد علماء
المسلمين السماح لهم مع نشطاء دوليين بدخول غزة عن طريق رفح لإدخال المساعدات، لم
تستجب له السلطات المصرية.
وهكذا فإن مواقف الحكام العرب والمسلمين من الإبادة الإسرائيلية لسكان غزة لم
ترقَ لمواقف عددا من دول أمريكا اللاتينية مثل بوليفيا وكولومبيا وتشيلي وهندوراس،
التي قطعت علاقاتها بإسرائيل أو استدعت سفراءها لديها احتجاجا على عدوانها البربري
على غزة، كما لم ترقَ لموقف جنوب أفريقيا التي رفعت دعوى ضد إسرائيل بمحكمة العدل
الدولية لممارستها
الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. بل إن مواقف الحكام العرب لم
ترقَ لمستوى مواقف كل من أيرلندا والنرويج وإسبانيا وبلجيكا، وحضر رئيسا وزراء إسبانيا
وبلجيكا لمعبر رفح مطالبين بدخول المساعدات، بينما لم نسمع عن حاكم عربي استقبل
مسؤولا من غزة لمجرد المؤازرة المعنوية، ولم تدخل غزة سوى وزيرة قطرية لتقديم
المساعدات.. حتى تركيا التي قال رئيسها إن جنود غزة ساهموا مع الجيش التركي في
معاركه تاريخيا، لم ترد الجميل لأهالي غزة بما كان يجب عليها، وبما يكافئ مكانتها
الاقتصادية والسياسية، وتركتهم فريسة للجوع، مما قلل من شعبية الرئيس التركي وحزبه
بشكل حاد بين الشعوب الإسلامية، مع تدني الاهتمام بانتخاباته المحلية المقبلة بعد
صدمتهم بمواقفه الباهتة.
أما الحكومات الغربية فقد كانت صريحة في مؤازرتها للعدوان الإسرائيلي
بالعتاد والأموال والمتطوعين، وسعيا لتفادى احتمالات غضب الشارع الإسلامي خلال شهر
رمضان الذي يعود خلاله كثير من المسلمين إلى المساجد، فقد نصح الحكام العرب إسرائيل
وهؤلاء بوقف العدوان خلال رمضان تفاديا لإيقاظ مشاعر المسلمين، وأملا في استمرار
خداع الكثير منهم من خلال وسائل الإعلام التي تهيمن عليها الأنظمة العربية الحاكمة،
لتعود إسرائيل بعد الهدنة لمعاودة الكرة ودخول رفح لتحقيق أهدافها، بتهجير الفلسطينيين
والقضاء على المقاومة بعد إمدادها بالعتاد الكافي وتعويضها عن الذخائر التي نفذت وإعادة
تنظيم صفوف جيشها.
وتعاود الحكومات الغربية نفاقها وخداعها بما تسميه إسقاط المعونات من خلال
الجو على سكان غزة، وكأنها ليست هي التي ساندت العدوان وتسببت بهذا القتل والدمار
الشامل لنحو خمسة أشهر، وكأنها ليست هي التي سعت لمنع الطعام عن سكان غزة، وتتعامل
مع الشعوب العربية والإسلامية كأنها من البلهاء؛ حين يقر وزير الدفاع الأمريكي
يجب ألا ننسى كشعوب عربية وإسلامية أنه لا فرق بين مواقف حاكم عربي وإسرائيلي أو أوروبي أو أمريكي، فالكل يسعون لإبادة الشعب الفلسطيني، ولو كانت حماس هي خصمهم كما يزعمون، فلمَ تغاضوا عن تجويع غزة وسكتوا عن جرائم إسرائيل في الضفة الغربية والتي طالت حتى المزارعين ورعاة الغنم في الحقول والمراعي
بأن
هناك آلاف القتلى من النساء والأطفال في غزة، شارك خبراؤه وسلاحه وجنوده في قتلهم،
ومثل ذلك من تصريحات لحكام أمريكا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا، ربما موجهة
إلى الذين شاركوا في المسيرات في بلادهم للمطالبة بوقف الحرب لامتصاص جانب من
غضبهم.
التحذير من استمرار المخطط بعد الهدنة
لكن يجب ألا ننسى كشعوب عربية وإسلامية أنه لا فرق بين مواقف حاكم عربي وإسرائيلي
أو أوروبي أو أمريكي، فالكل يسعون لإبادة الشعب الفلسطيني، ولو كانت حماس هي خصمهم
كما يزعمون، فلمَ تغاضوا عن تجويع غزة وسكتوا عن جرائم إسرائيل في الضفة الغربية والتي
طالت حتى المزارعين ورعاة الغنم في الحقول والمراعي؟ فالحقيقة أنهم رافضون
للمسلمين أساسا، ولذلك كان رفضهم لدخول تركيا الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية،
ولهذا كان صمتهم على حصار البوسنة لنحو ثلاثة أعوام ونصف العام وسماحهم بمقتل ما يقرب
من 200 ألف قتيل من البوسنة.
ولأن المقاومة الإسلامية في غزة تعيد تذكير المسلمين بأنهم أمة واحدة
تربطها مصالح وهموم مشتركة، فإن هؤلاء الحكام العرب والإسرائيليين والغربيين
والأمريكيين، سيستمرون في سعيهم بعد هدنة رمضان لتحقيق هدفهم المشترك، بالقضاء على
ما يمكن أن يتسبب في صحوة عربية أو إسلامية والمتمثل في صمود المقاومة الإسلامية في
غزة، وهو ما يجب أن تعيه الشعوب العربية والإسلامية وتستعد له.
twitter.com/mamdouh_alwaly