يخوض
جيش الاحتلال منذ أكثر من أربعة أشهر معركته الأطول في تاريخه القصير، والمفارقة
أن طول مدة المعركة لا يتناسب مع المساحة المستهدفة، إذ سبق لهذا الجيش أن احتل آلاف
الكيلومترات في ستة أيام فقط عندما واجه جيوشا نظامية، لكنه اليوم وقف أمام قوات
متمرسة؛ يقاتل قادتهم بجوار جندهم، وتدفعهم قيم ومُثُل تجعل قوة كل شخص في الميدان
مماثلة لقوة آلية عسكرية ضخمة، وهذا الدافع المعنوي هو ما صنع هؤلاء الرجال وجعلهم
بهذه الصلابة.
(1)
كانت
غزة منذ بدء الاحتلال
الإسرائيلي للأراضي
الفلسطينية حجر عثرة أمام المشروع
السرطاني الدموي، وبعد انتخابات 2006 في فلسطين قرر العالم أجمع أن يدير ظهره إلى
تلك البقعة الصغيرة وتأديبها لأنها معقل لحركة حماس، وبالتبعية هي معقل لمدرسة
الإخوان المسلمين الفكرية التي يخاصمها حكام الإقليم بلا استثناء.
تعرض
الغزيون لحصار خانق منذ عام 2007، لتركيع
المقاومة فيها، ولصرف ناخبي حماس عن
الحركة، وهذه أمور تُخضع المتضررين، وهذا طبيعي بالمناسبة، لكن ما نعلمه أن غزة لم
تخرج عن بكرة أبيها في تظاهرات ضد حماس لتطالبها بترك السيطرة على القطاع وتسليمه
إلى سلطة أخرى، ولم نعلم أنها خرجت وقمعتها الشرطة في القطاع، بل تجرع الغزيون ضيق
الحياة ونزْعَ صفة الإنسانية عنهم طوال سنوات، ملتحفين بغطاء فلسطيني فقط، ومدركين
بوضوح جهة العدو الذي ينبغي الصراخ في وجهه، والخصم الوطني الذي يُناقش، والقابض
على السلطة الذي تُشكى إليه أحاديث مرارة الحياة، أو انتقادات سوء إدارته للشأن
العام.
الحدث اكتسب أهميته من نقاط أخرى أكثر رمزية من مجرد ضخامة العدد، أو الاختراق الأمني والمعلوماتي.
البوابة الرئيسية لكل النقاط الفرعية، هي جرأة الهجوم الذي اخترق حدود القطاع ودخل إلى عمق الأراضي المحتلة، وخوض اشتباكات قوية ولمدة ساعات في قواعد عسكرية، أدت إلى إشاعة الخوف في عموم الأراضي المحتلة
كان
يمكن للغزيين أن يجأروا برفضهم لحماس، وكان يمكنهم على الأقل استقبال العدو
بالاحتفاء وهو يدخل القطاع للمرة الأولى منذ عام 2005، ليعلنوا للعالم رفضهم لحكم
الحركة "التي تقامر بحياتهم"، لكنهم صمدوا رغم القتل ومرارة ما يلاقونه،
ورفَض مئات الآلاف ترك أماكنهم كما في شمال القطاع المدمر تماما، مؤكدين أنهم محضن
قوي جدا للمقاومة ضد الاحتلال، دون أن يمنع الاحتضان الخلاف مع المحضون، إلا أن
استمرار الاحتضان يؤكد قبول المحضون.
(2)
انطلقت
من غزة معارك متكررة لإعادة التوازن في القضية الفلسطينية، وربما كانت معركة سيف
القدس عام 2021 أبرز المعارك، إذ أعلنت المقاومة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام
الانتهاكات في الأراضي المحتلة خارج قطاع غزة، وقدمت نفسها مسؤولة عن الفلسطينيين
كلهم بما في ذلك المقدسيون في حي الشيخ جراح، كما كانت الدلالة الأخرى الأبرز أن
معركة سيف القدس بدأتها المقاومة ولم تكن رد فعل على هجوم صهيوني كأي عدوان سابق،
ما أعطاها رمزية أخرى أوصلت المقاومة بعد أقل من عامين ونصف إلى شن أكبر هجمة عسكرية
تجاه المحتل.
لم
تكن هجمات طوفان الأقصى حدثا عسكريا عاديا كأي عملية أسر لجنود صهاينة، وليس العدد
الضخم من الأسرى هو الذي أكسب الحدث أهميته ورمزيته، إذ لو أسرت المقاومة 1000
جندي من على حدود القطاع لما استدعى نفس رد الفعل والتصلب في المواقف والهرولة
الدولية نحو العدو، وليست سرية المعلومات التي وصلت إليها المقاومة هي السبب أيضا،
فالاختراقات الأمنية تظل واردة مهما كانت درجة السرية، لكن الحدث اكتسب أهميته من
نقاط أخرى أكثر رمزية من مجرد ضخامة العدد، أو الاختراق الأمني والمعلوماتي.
البوابة
الرئيسية لكل النقاط الفرعية، هي جرأة الهجوم الذي اخترق حدود القطاع ودخل إلى عمق
الأراضي المحتلة، وخوض اشتباكات قوية ولمدة ساعات في قواعد عسكرية، أدت إلى إشاعة
الخوف في عموم الأراضي المحتلة.
(3)
كان
هناك فيديو شهير لأحد الجنود السابقين في جيش الاحتلال، قال فيه إنهم يقومون بطرق
الأبواب ليلا على الفلسطينيين في الضفة بصورة عشوائية ويفتشون المنازل التي يدخلون
إليها، لا لسبب سوى إعلام الفلسطينيين بـ"أنهم هنا" ويمكنهم الوصول
إليهم متى أرادوا، لكن في صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر اتضح أنهم
ليسوا هنا، وأن الفلسطينيين هم الذين على الأرض. وقد أشار السيد نصر الله إلى معنى
مهم بقوله أمس، إن اللبنانيين في الجنوب صامدون رغم الهجمات العسكرية للاحتلال،
بينما هرب 100 ألف مستوطن من منازلهم ولن يعودوا إليها قبل وقف الصواريخ
اللبنانية، لأنهم يدركون أنهم احتلال.
يحرق الإسرائيلي الأرض ومَن عليها في القطاع، ويحاول فرض مشهد القوي مرة أخرى، لكن مجتمع الاحتلال الذي يبيت في الملاجئ أصبح يعلم أنه لا أمان في هذه الدولة، وأن قواته "الأقوى في المنطقة" لا تستطيع القضاء على حركة محاصَرة منذ 17 عاما، ولديها تسليح محدود، وقطعا لن تستطيع خوض معركة ضد حزب الله الأقوى بأضعاف، وأصبح المجتمع يعلم أن جهازه الاستخباراتي "الأكفأ في المنطقة" لم يستطع منع الهجوم
نعم،
استيقظ الصهاينة صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وأدرك أبناء الأجيال
المولودة هناك بعد النكبة أنهم محتلون لأراضي غيرهم، غابت هذه الحقيقة التي عاصرها
سابقوهم من المغتصبين الأوائل الذين قاتلوا من أجل سرقة الأرض حتى عام 1948، وغابت
هذه الحقيقة بعد سلام دافئ بدأته مصر وتبعتها دول عربية أخرى في السر إلى أن صار
السر علنا، وغابت هذه الحقيقة بسبب الشعور المفرط بالقوة، والاحتقار الكامل
للفلسطينيين.
(4)
كان
العالم قد اهتم بترتيبات أغفلت وجود الفلسطينيين، فالقطاع محاصر، والسلطة مستأنسة،
والحكام العرب يهرولون نحو التطبيع وإرضاء الأمريكان، والقضية الفلسطينية تتعرض
إلى موت بطيء بفعل كل هذه العوامل، ولم يتصور أحد أن يُعاد إحياؤها مرة أخرى، فأتى
الطوفان كانسا لكل التصورات، وغاسِلا لوجوهنا التي دنسها تراب الاستبداد
والاحتلال.
اليوم
يحرق الإسرائيلي الأرض ومَن عليها في القطاع، ويحاول فرض مشهد القوي مرة أخرى، لكن
مجتمع الاحتلال الذي يبيت في الملاجئ أصبح يعلم أنه لا أمان في هذه الدولة، وأن
قواته "الأقوى في المنطقة" لا تستطيع القضاء على حركة محاصَرة منذ 17
عاما، ولديها تسليح محدود، وقطعا لن تستطيع خوض معركة ضد حزب الله الأقوى بأضعاف، وأصبح
المجتمع يعلم أن جهازه الاستخباراتي "الأكفأ في المنطقة" لم يستطع منع
الهجوم ولا العثور على فرد واحد لدى الفصائل المقاوِمة، وهذا الشعور أقوى بكثير من
جميع تطمينات العالم للاحتلال وقادته، وهو كفيل بتفريغ قوافل المهاجرين إلى أرض
"الحلم اليهودي"، ليجعلها قوافل عكسية للمهاجرين من "الكابوس
الإسرائيلي".