تكاد تجمع كل القراءات الموضوعية لما حدث
يوم 7 أكتوبر 2023 وما تبعه إلى الآن، أن معركة طوفان الأقصى تمثل نقطة تحول حضاري
في علاقة الإسلام بالغرب لاعتبارات عديدة، أهمها طبيعة القضية
الفلسطينية وما
يتكثف فيها من أبعاد دينية وفكرية وجيو سياسية واقتصادية وعسكرية ظرفية واستراتجية
ثم طبيعة الوجود الصهيوني الذي أكدت الأحداث الأخيرة أنه لا يقتصر على حراسة مصالح الغرب في منطقة الشرق الأوسط فقط إنما
يتجاوزه إلى الاستناد إلى عقائد ومقولات كبرى نابعة من المسيحية المتصهينة وتمثل أهم
ركائز الهيمنة الغربية المعاصرة، هذا بالإضافة إلى أن وجود الكيان في فلسطين قلب الأمة
الإسلامية وما يمثله من ترجمة عملية
للنفوذ الدولي للصهيونية العالمية.
من هذه المنطلقات يمكن فهم العربدة الدولية
للكيان وحجم جرائمه التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني والدعم الدولي اللامشروط
له والتواطؤ العربي الرسمي المفضوح معه.
ورغم أن معركة طوفان الأقصى لم تنته بعد فإن
ما أحدثته قد هز أركان الكيان وداعميه والمتواطئين معه وأكد أنه ليس استثناء وأن
قوانين الاجتماع البشري تسري عليه كما تسري على غيره.
في المقابل قدم الشعب الفلسطيني أنموذجا
متطورا في الكفاح والمقاومة من أجل التحرر الوطني وأكد عمليا وبما لا يدع مجالا
للشك والاستسلام والخنوع أن عودة الحق لأصحابه الشرعيين حتمية لا بد منها آجلا أم
عاجلا.
وتبقى الإشكالية الجوهرية التي تطرحها معركة
طوفان الأقصى على الأمة ونخبها الأصيلة هي كيفية جعل نقطة التحول الحضاري التي أحدثتها
منطلقا للاستئناف الحضاري الإسلامي المعاصر الذي يحقق وعد الله في إعادة الاعتبار
للأمة ويعدل بوصلة الإنسانية في اتجاه القيم والأخلاق والسلم والاستقرار والرفاه..
منذ أواخر القرن التاسع عشر والأمة بمختلف
طلائعها تحاول رفع تحدي الانحطاط والتخلف الذي تردت فيه والذي ازداد تفاقما بتداعي
الأمم عليها بالاستعمار المباشر. ضمن هذا الإطار تشكلت حركات الإصلاح والتحرر
الوطني التي كانت مدار اهتمام تيارها الغالب استئناف الأمة العربية الإسلامية
لدورها الحضاري على أرضية الإسلام مقابل تيارات أخرى كان مدار اهتمامها تكريس الإلحاق
الحضاري للأمة بالغرب المسيحي المتصهين.
لقد بات من الضروري أن تحقيق الاستئناف الحضاري للأمة يحتاج إلى مراجعة أكيدة للمفاهيم والرؤى لرأب الصدع بين طلائعها الأصيلة المناضلة وحاضنتها الاجتماعية وكذلك لإزالة الخلط بين ثوابت الإسلام من نصوص ومبادئ وقيم وأخلاق وبين ما يحصل من تفاعل للعقل البشري معها وما ينتج عنه.
وقد تعددت المقاربات الفكرية والتعبيرات
السياسية داخل تيار الإصلاح والتحرر الوطني بين الفهم الشمولي للإسلام والفهم
الجزئي وبين أولوية الإصلاح المجتمعي أو السياسي وحول طبيعة الإصلاح بين السلمية
وغيرها من المناهج وبين المبدئية والمناورة والتدرج وبين الشدة واللين، حيث
تبلورت بعض المفاهيم التي أطرت المسار
المعاصر لكدح الأمة نحو التحرر الوطني كان أبرزها مصطلح الإسلام السياسي الذي أطلقه
الإعلام الغربي على حركات وأحزاب الصحوة الإسلامية المعاصرة ثم مصطلح الإسلام
الحضاري الذي انبنت على أساسه النهضة الماليزية المعاصرة وكذلك مصطلح الديمقراطية
المحافظة الذي انبنت عليه تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وآخرها مصطلح
المسلمون الديمقراطيون أو ما سمي بالإسلام الديمقراطي.
والملاحظ أن كل هذه المقاربات تلتقي حول
تمييز الإسلام بصفة بارزة تجعله مختلفا عن غيره بين البعد السياسي والبعد الحضاري
والبعد الديمقراطي.. والمقصود بالإسلام في هذه المصطلحات هو التعبير عن فهم للإسلام
بعمق الصفة المميزة التي وقع إلحاقها به، وبذلك انبنت جهود النهضة والتحديث
المعاصرة للأمة على فهم سياسي للإسلام وفهم حضاري وآخر ديمقراطي.. وقد كان لعملية
التوجيه التي مارسها الغرب بضخ مصطلح الإسلام السياسي الأثر السيء على التجارب
العملية لحركات وأحزاب الصحوة الإسلامية المعاصرة، حيث تم حشرها في بوتقة إسلام
ظهر وكأنه لا هم له إلا السياسة والإيحاء بوجود إسلام آخر غير الإسلام السياسي. وقد
هدف المخطط إلى عزل طلائع الأمة ونخبها عن حاضنتها الاجتماعية وعمقها الحضاري
والتاريخي حيث تحققت أقدار لا بأس بها، من
ذلك خاصة بعد أن تم حشو مصطلح الإسلام السياسي بكل ما هو تشدد وعنف وإرهاب.
ففي أي اتجاه يمكن أن تذهب المراجعة الفكرية
والسياسية في هذا الموضوع، في ظل ما حصل من مراكمة لتجربة النهوض بالأمة خاصة في
السنوات الأخيرة أثناء الموجة الأولى للثورات العربية وكذلك ما تطرحه معركة طوفان الأقصى من تحديات وفرص؟
لقد بات من الضروري أن تحقيق الاستئناف
الحضاري للأمة يحتاج إلى مراجعة أكيدة للمفاهيم والرؤى لرأب الصدع بين طلائعها الأصيلة المناضلة وحاضنتها
الاجتماعية وكذلك لإزالة الخلط بين ثوابت الإسلام من نصوص ومبادئ وقيم وأخلاق وبين
ما يحصل من تفاعل للعقل البشري معها وما ينتج عنه.
وقد بينت التجربة العملية لما يزيد عن نصف
قرن من نضال الحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية قصور بعض المفاهيم
والمصطلحات عن التعبير عن طبيعة جهدها الهادف إلى تحقيق الاستئناف الحضاري للأمة
بكل مقتضياته وأبعاده وأن من أهم مواطن الخلل هو منهج فهمها للإسلام ثم منهج
تنزيلها له بما يجعل الأمر متعلقا بالفهم وما يتطلبه من تمايز عن الأفهام الأخرى
وليس بالإسلام. ثم إن بناء الحضارة بمفهومها الشامل وتعمير الأرض وخلافة الله فيها
هو جوهر مهمة الإنسان في الكون. والمفهوم الشامل للحضارة لا يقتصر عن المنتجات
المادية فقط بل يضم أيضا المنتجات المعنوية من فكر وثقافة وغيرها.
بهذا المعنى يكون الفهم الحضاري للإسلام
بما هو بناء للإنسان كمحرك أساسي للتاريخ وصانع للنهضة والتنمية والتطور ومعمر للأرض
وخليفة لله فيها على منهج الاستخلاف والإشهاد والعدل والحرية هو المصطلح الأكثر
تعبيرا عن توجهات طلائع الأمة ونخبها نحو التحرر والفعل والمساهمة في البناء
الحضاري الإنساني وهي مهمة عظيمة كفيلة بأن تكون دافعا ومحركا فعالا لكل حامل لها، ولعل ما يمكن استخلاصه من تجربة المقاومة الفلسطينية ومعركة طوفان الأقصى وتجارب
البناء الوطني النابع من هوية الأمة ومنطلقاتها وخصوصيتها الثقافية واتجاهها لبناء
الإنسان أولا في تركيا مثلا وماليزيا خير دليل على جدوى الفهم الحضاري للإسلام وأهميته
وبلورة توجهات الأمة وخياراتها في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية على أساسه.