بعد ثمانية أشهر من الصمود التاريخي والأسطوري
الذي يواجه به الشعب
الفلسطيني بقيادة مقاوميه الأبطال آلة الدمار الصهيونية في
غزة والضفة والقدس
بدعم وانخراط مباشر وغير مباشر من أغلب الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة
الأمريكية وتواطؤ الأنظمة العربية، وأحيانا بشكل مفضوح، خاصة الممضية على اتفاقيات
التطبيع بما في ذلك السلطة الفلسطينية التي تحولت إلى ذراع طولى للاحتلال في الضفة
دون أن يهتز لها ولأعوانها جفن لهول ما يرتكبه الصهاينة من جرائم في حق أبناء
جلدتهم آخرها قصف خيام اللاجئين في رفح دون أي اعتبار لمواثيق الأمم المتحدة أو
قرارات الشرعية الدولية وآخرها قرار محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية
في رفح.
في الأثناء يتواصل مراطون الاتصالات
والمفاوضات والوساطات والضغوطات والمخاتلات لوقف الصراع والمرور إلى ما يسميه
البعض باليوم التالي أو ما بعد
الحرب.
وهنا مربط الفرس كما يقال والسؤال المركزي
حول مصير القضية ومستقبلها بين ما سطره الميدان من حقائق وما أحدثه من تحولات وما
فتحه من آفاق وما يريده الكيان وطوابيره الدولية والإقليمية من تأمين لوجوده وتصفية
نهائية للقضية ومقاومتها بالتفاوض؟
لقد أفضى صمود الأشهر الثامنية إلى الحقائق
الميدانية التالية:
1 ـ الفشل الذريع للكيان الصهيوني وداعميه
والمتواطئين معه في تحقيق أي انتصار ميداني على المقاومة في معركة طوفان الأقصى
رغم كلفة العدوان التي يدفعها الشعب الفلسطيني في كل شبر من أراضيه وخاصة في غزة
من حصار وتجويع وقتل وترويع.
2 ـ معركة طوفان الأقصى مسمار غائر في نعش آخر
احتلال استيطاني في العصر الحديث، وذلك لانعكاساته الميدانية
المباشرة التي هزت ثقة الكيان جيشا وشعبا وقيادة في قدراته الميدانية وزرعت بذور الهزيمة النفسية في داخله وبما أحدثته من زلزال في الرأي العام الدولي
وفي وعي الشعوب خاصة الحرة منها ولدى أجيالها المستقبلية بالخصوص من شباب الجامعات
وما حصل من تطورات مهمة في الموقف الدولي وخاصة طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية
إصدار بطاقات جلب في حق رئيس وزراء الكيان ووزير دفاعه رغم توجيه نفس الطلب في حق
ثلاثة من قيادات المقاومة وتسوية المعتدي بالمعتدى عليه أو المغتصب بصاحب الحق إلا
أن أهمية الطلب تكمن في رفع الحصانة الدولية عن الكيان وقادته وفقدانه سلاح
المحرقة ومعاداة السامية.. يضاف إلى هذا التطور إعلانات الاعتراف بالدولة
الفلسطينية من عدة دول رغم رمزيته.
معركة طوفان الأقصى مسمار غائر في نعش آخر احتلال استيطاني في العصر الحديث، وذلك لانعكاساته الميدانية المباشرة التي هزت ثقة الكيان جيشا وشعبا وقيادة في قدراته الميدانية وزرعت بذور الهزيمة النفسية في داخله وبما أحدثته من زلزال في الرأي العام الدولي وفي وعي الشعوب خاصة الحرة منها
3 ـ معركة طوفان الأقصى على أهميتها فهي من
الناحية الاستراتيجية خطوة متقدمة على طريق تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر
وإجبار الغرب على تفكيك قاعدته المتقدمة في قلب الأمة مثلما تفكك نظام الميز
العنصري في جنوب إفريقيا وكذلك الاتحاد السوفييتي امبراطورية الشر حسب التوصيف
الغربي الرأسمالي.. والأكيد أنها ليست الخطوة الأخيرة، لذلك فإن المهم هو في كيفية
البناء عليها والمراكمة على إنجازاتها وتجاوز مخلفاتها الظرفية من دمار وتشريد
وتجويع في ظل حصار خانق وإرادة دولية وإقليمية مجتمعة لإجهاضها وإفراغها من
محتواها وتجنب انعكاساتها المستقبلية.
والأكيد أن للمقاومة وقيادتها رؤية ذات أبعاد
استراتيجية وتكتيكية لليوم التالي وما يليه ضمن الهدف المركزي للثورة الفلسطينية .
كما أن هذه الحقائق الميدانية الكبرى والثابتة تتطلب اقتدارا سياسيا تفاوضيا لا يقل
أهمية عن الاقتدار الميداني وربما يفوقه أحيانا،
وذلك ضمن المحاذير التالية :
1 ـ الانتباه للمخاتلات التفاوضية التي يمكن
أن تحقق نصرا ولو موهوما للكيان ظرفيا وتفتح المجال استراتجيا لعملية كي قاسية
للوعي الفلسطيني المشبع بأشواق التحرر والمتمسك بالتحرير الكامل حتى يقلع عن ذلك
نهائيا. ولعل من أبرز المخاتلات التفاوضية هي وهم الدولتين على أرض فلسطين
التاريخية طبقا لقرارات الأمم المتحدة يعني دولة الكيان والدولة الفلسطينية على أراضي
1967 التي تضم القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة.
وكلما اشتد الضغط على الكيان إلا وأخرج
كافليه ووكلائهم من أدراجهم ما يسمى بحل الدولتين للضحك على ذقون المغفلين من الأنظمة
العربية والدخول في دوامة التفاوض ومزيد التفاوض دون نتيجة وهي في جوهرها وسيلة لإدخال
أي نفس مقاوم إلى بيت الطاعة الصهيونية.
قد يكون حل الدولتين بالنسبة للمقاومة خطوة
تكتيكية على طريق التحرير الكامل هذا من الناحية النظرية لكن عمليا لا توجد إمكانية
لتنزيله والراجح أنه لن يحصل إلا أن يكون الكيان مضطرا إليه وفي هذه الحالة عليه أن
ينسحب من أراضي الـ 67 انسحابا كاملا لإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة دون قيد أو
شرط.
لذلك يصبح طرح إقامة الدولة الفلسطينية الآن
مجرد مادة للاستهلاك السياسي وتحويل اهتمام الفلسطينين عن جوهر قضيتهم. كما أن ما
أعلنته بعض الدول الأوروبية من اعترافات بالدولة الفلسطينية لا أثر له سياسيا ودوليا خاصة إذا تبين أن
الدولة المقصودة هي دويلة محمود عباس التي لا ترتقي إلى مستوى سلطة محلية في دولة
ذات سيادة ومع ذلك يبقى الإعلان خطوة سياسية في صالح القضية الفلسطينية يمكن البناء عليه مستقبلا.
أما المخاتلة الثانية فهي وحدة الشعب
الفلسطيني وهي كلمة حق يراد بها باطل.. فلا شك أن الوحدة الوطنية ضرورة حيوية
للقضية الفلسطينية لكن أية وحدة؟ وعلى أي أرضية؟ هل الوحدة على أرضية التحرير بكل
الوسائل التي تكفلها كل الشرائع والأديان والمواثيق الدولية أم هي وحدة على أرضية
الاستسلام والخنوع والتفريط؟
الواضح أن القصد من الوحدة الفلسطينية هو
حشر المقاومة تحت سقف اتفاقية أوسلو وسلطتها المتهاوية وليس العكس لأن الوحدة على أرضية
المقاومة أمر واقع في الميدان بين كل فصائل الشعب الفلسطيني في إطار غرفة العمليات
المشتركة وفي إطار المشاورات السياسية المستمرة.
والحديث عن الوحدة مثل الحديث عن الدولة
المزعومة هو طعم الهدف منه إرباك المقاومة وفك الارتباط بينها وبين حاضنتها
الشعبية.
معركة طوفان الأقصى على أهميتها فهي من الناحية الاستراتيجية خطوة متقدمة على طريق تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر وإجبار الغرب على تفكيك قاعدته المتقدمة في قلب الأمة مثلما تفكك نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا وكذلك الاتحاد السوفييتي امبراطورية الشر حسب التوصيف الغربي الرأسمالي.
أما المخاتلة الثالثة فهي التواجد الدولي في
غزة لحفظ السلام وإدخال المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار بمشاركة بعض الأنظمة
العربية المطبعة التي عبرت عن استعدادها في القمة العربية الأخيرة لدعم سلطة
عشائرية في غزة مثل سلطة محمود عباس. وهذا التواجد لن يكون إلا في خدمة
الاستراتيجيا الصهيوأمريكية التي تهدف إلى إخضاع الشعب الفلسطني وشق صفه بتشكيل
طابور خامس في خدمة الاحتلال في غزة لضرب المقاومة من الداخل على غرار تجارب
الاحتلال الأمريكي في أفغانستان والعراق عموما وتجربة إخضاع مقاومة الفلوجة خصوصا
وغيرها من التجارب.
2 ـ التمسك بالحق المطلق في المقاومة
المسلحة وجعله خارج أي إطار للتفاوض أو المساومة حتى لا يتكرر سناريو إخراج
المقاومة الفلسطينية بقيادة الشهيد ياسر عرفات من لبنان سنة 1982 إلى شتات آخر في أكثر
من دولة عربية لتتولى عزلهم وترويضهم. فوجود المقاومة في ميدان الصراع مسألة
استراتيجية لا يحق لأي كان التفريط فيها.
3 ـ ممارسة التكتيك السياسي والمرونة
التفاوضية ضمن رؤية استراتيجية رغم صعوبة الأوضاع وضغطها وعدم وجود ظهير سياسي
للمقاومة من بين القائمين بالوساطة فاحدهم
منحاز انحيازا تاما والاخر متواطئ ويحاول عبثا مداراة رغبته الجامحة بما يعادل او
يفوق رغبة الكيان الصهيوني في القضاء على المقاومة اما الطرف المتبقي فانه يحاول
بصعوبة التزام الحياد الذي يضطر احيانا الى دفع ثمن باهض مقابله. لذلك فان الوضعية تتطلب انتباها شديدا لعدم القبول بحلول
تكتيكية تحت ضغط الواقع يمكن ان تكون لها
انعكاسات سلبية استراتجيا.
وفي خلاصة فإن معطيات تطور الصراع في فلسطين
في جولة طوفان الأقصى بين المقاومة والكيان الصهيوني تؤشر على قرب نهايته رغم
مواصلة حالة عض الأصابع بينهما وانتظار من سيصرخ أولا.
الراجح أنها ستنتهي باستراحة محارب لا غير ليندلع
الصراع مجددا بشكل أكثر ضراوة ويمكن أن يتوسع إقليميا رغم النجاح النسبي في تطويقه
هذه المرة وحصره خاصة في غزة دون أن يتحول في الضفة وأراضي 48 إلى صراع مسلح شامل
وكذلك دون أن يتحول إلى حرب إقليمية رغم الإسناد الميداني اليمني واللبناني
والعراقي للمقاومة.
*كاتب وناشط سياسي تونسي