من نافلة العمل السياسي الطبيعي أن تحدث انزياحات سياسية (براغماتية)
وأيديولوجية للحركات السياسية (المقاومة خصوصا) عندما تنتقل من هامش العمل السياسي
إلى مركزه، ذلك أنه في فعل العمل المقاوم يرتفع منسوب الأيديولوجيا وينخفض منسوب
السياسية باعتبارها فن الممكن أو باعتبارها فعلا فيه كثير من البراغماتية والواقعية.
ينطبق الأمر نفسه ـ وإن لأسباب مختلفة ـ على الدول والحركات السياسية
عندما تتعرض لضغوط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية قاهرة، فتضطر إلى تقديم تنازلات
أو القيام بتحالفات تبدو مستحيلة في ظل ظروف طبيعية.
على سبيل المثال، لم تعد مصر مع السيسي كما كانت أثناء حكم مبارك،
فالأول عمد على استرضاء إسرائيل، وكان ثمن ذلك موقف متخاذل مستمر مع إسرائيل ضد
غزة.
تدرك الحركة ذلك، لكنها مع كل فرصة تقدم خطابا إعلاميا مادحا لمصر،
وقد ظهر هذا الخطاب واضحا أثناء الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة على الرغم من
تعاون مصر مع إسرائيل في عرقلة دخول المساعدات إلى القطاع، والتخاذل المضمر مع
إسرائيل في القضاء على "حماس" عسكريا وسياسيا، والسبب في ذلك أن مصر هي
المنفذ الوحيد للقطاع على العالم الخارجي، ومن هنا تبقى العلاقة مع القاهرة على
الرغم من سلبياتها محورا رئيسا في المعادلة الاستراتيجية لحركة "حماس".
ضمن معادلة
علاقات الضرورة، جاء لقاء محمد دحلان (القيادي السابق في
حركة "فتح" ورئيس "التيار الإصلاحي" المدعوم مصريا وإماراتيا
وإسرائيليا) مع إسماعيل هنية في الدوحة قبل نحو أسبوع.
صحيح أن حركة "حماس" تصالحت مع دحلان قبل سنوات قليلة
لاعتبارات مصرية ولاعتبارات متعلقة بتوسيع دائرة التحالفات في بيئة
فلسطينية
منقسمة بقوة وطنيا، لكن هذا التصالح لم يترجم إلى عمل سياسي مشترك، إذ بين
الجانبين هوة "وطنية" وسياسية وأيديولوجية كبرى لا تسمح لهما أن يكونا
في سلة واحدة، فضلا عن محاولة دحلان (قائد جهاز الأمن الوقائي آنذاك) عام 2006
إجراء انقلاب على الحركة لمنعها من السيطرة على القطاع بعد فوزها في الانتخابات
التشريعية.
لدحلان مصلحة في الانفتاح على حماس لسببين رئيسيين:
الأول، أنه ابن غزة، حيث العلاقات الجهوية ما تزال تلعب دورا في
العمل السياسي الفلسطيني، وفي هذا تتلاقى المصالح: دحلان يرغب بإعادة حضوره في
القطاع خصوصا أن لديه مؤيدين كثرا لا يزال يقدم لهم إلى الآن الكثير من المساعدات،
وحماس لديها مصلحة في كسب شخص بمستوى قوة دحلان بحيث يكون جزءا من معادلة غزة لا من
معادلة السلطة (العامل الجهوي).
حركة "حماس" تصالحت مع دحلان قبل سنوات قليلة لاعتبارات مصرية ولاعتبارات متعلقة بتوسيع دائرة التحالفات في بيئة فلسطينية منقسمة بقوة وطنيا، لكن هذا التصالح لم يترجم إلى عمل سياسي مشترك، إذ بين الجانبين هوة "وطنية" وسياسية وأيديولوجية كبرى لا تسمح لهما أن يكونا في سلة واحدة، فضلا عن محاولة دحلان (قائد جهاز الأمن الوقائي آنذاك) عام 2006 إجراء انقلاب على الحركة لمنعها من السيطرة على القطاع بعد فوزها في الانتخابات التشريعية.
الثاني، الرغبة في انشاء مركز سياسي داخل الجغرافية الفلسطينية بعيد
خروجه من الضفة، ومن شأن هذه القاعدة أن تكون منطلقا لإعادة توسيع حضوره في الضفة
الغربية.
لهذه الأسباب، يبدو لقاء هنية-دحلان مجرد لقاءٍ عابر يدخل ضمن
مقتضيات
السياسة الطبيعية، إلا أن تصريحات دحلان عن ضرورة وجود قيادة تحكم غزة
بعيدا عن "حماس" والسلطة الفلسطينية مؤشر على أن اليوم التالي للحرب
سيكون مختلفا عما قبله من الناحية السياسية في غزة.
قد يبدو التصريح مبالغا فيه من الناحية السياسية، فلا يمكن تصور غزة
دون حماس، ليس فقط بسبب قوتها وجذرها الاجتماعي فحسب، بل أيضا لأنها نجحت في
البقاء أمام آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة المستمرة منذ أشهر، بل أيضا نجحت في
تكبيد العدو خسائر بشرية كبيرة.
وإذا كانت الحرب امتدادا للسياسة وإن بوسائل أخرى، فإن صلابة حماس في
الحرب سيجعلها بالضرورة جزءا من المعادلة السياسية مهما كان شكلها المقبل.
المعطيات المتناثرة تشير إلى أن محمود عباس وافق على تشكيل حكومة
خبراء، شرط قبول "حماس" بمنظمة التحرير كممثل وحيد للشعب الفلسطيني،
وتبني القرارات الدولية في القضية الفلسطينية، بما في ذلك اتفاقات أوسلو، والتنازل
عن الكفاح المسلح.
كما تشير هذه المعطيات إلى موافقة "حماس" على الانضمام للمنظمة
والاعتراف بدولة فلسطينية في حدود 1967، والتنازل عن مكانها في حكومة الخبراء إذا
تم تشكيلها، طالما سيكون لها حضور في المنظمة كمؤسسة حاكمة عليا تعلو فوق
التنظيمات السياسية المتنوعة.
توسيع دائرة المنظمة وتشكيل قيادة وطنية تحكم غزة خطوة مهمة في إطار
مسار الوحدة الوطنية الفلسطينية، غير أن المشكلة لا تكمن هنا، وإنما في الخلفية
الموجبة لهذه التطورات.
بعبارة أخرى، إذا كان الهدف من توسيع المنظمة وتشكيل حكومة خبراء
محايدة فصائليا في غزة يكمن في الرضوخ للمطلب الأميركي ـ الإسرائيلي ـ المصري، فإن
هذه العملية ستنتهي بالضرورة ولو بعد حين إلى عودة الصراع بين "حماس"
والسلطة في ظل غياب مشروع استراتيجي وطني موحد يتفق عليه الجميع.
ثمة مشكلتان رئيسيتان تعترضان أي خطوة باتجاه الوحدة الوطنية:
الأول، أن السلطة الفلسطينية أصبحت هي السلطة الحاكمة الفعلية في
الضفة وليس منظمة التحرير، وبالتالي إن أي خطوة نحو إعادة تفعيل المنظمة وجعلها
المؤسسة الحاكمة العليا سيلقى رفضا من رام الله، وهو ما لن تقبل به
"حماس" ومعها "الجهاد الإسلامي".
الثاني، يتعلق بموضوع مقاومة الاحتلال، فالسلطة تصر على المقاومة
الشعبية كسبيل وحيد لنيل حق تقرير المصير، في حين أن "حماس" تصر على
العمل المسلح (على الأقل في هذه المرحلة قبل انتهاء الحرب)، وإذا ما قبلت الحركة
بمطلب السلطة فسيكون لديها شروط مقابل ذلك، منها ما يتعلق بإعادة تنظيم الصفوف
الشعبية في الضفة، ومنها ما يتعلق بالمفاوضات السياسية مع الاحتلال، وفي كلتا
الحالتين ستصبح "حماس" شريكا في الحكم، وهذا خط أحمر بالنسبة لعباس.
في ضوء هذه المعطيات، ربما جاء لقاء هنية-دحلان ضمن فاصل تاريخي
محوري، بحيث يستفيد كل طرف من الطرف الآخر لتعزيز حضوره.