بعد قطيعة دامت زهاء عشر سنوات، ومواقف متشددة خاصة من الرئيس التركي
تجاه النظام
المصري ورئيسه، حل أردوغان ضيفا على القاهرة، وقد جاء هذا التبدل في
المواقف والسياسات نتاجا للتطورات التي شهدتها المنطقة خلال الثلاث سنوات الماضية،
والتي كان من مظاهرها تفكك الحلف الخليجي المصري المناوئ لتركيا وقطر.
بالقطع سيكون الملف الليبي من ضمن مداولات الرئيسين، وسيكون لتقارب
البلدين أثر مباشر على اتجاه النزاع وخيارات تسويته، لكن من المهم الإشارة إلى أن
القضية الفلسطينية، والحرب الدائرة على غزة، وسيناريو تخريجها أقرب زمانا ومكانا
للقاهرة وأنقرة، فلكليهما تخوفات من تصفية غزة على حسابهما، وتبدي
تركيا قلقا من
اتجاه إسرائيل لتعزيز نفوذها في المنطقة في حال تم لها ما تريد في غزة.
على صعيد النزاع الليبي، فمن الواضح أن أنقرة تدرك أن أوان حصاد ثمار
الدور الذي لعبته في دعم جبهة الغرب الليبي لمواجهة مخطط السيطرة على مقاليد
الأمور باجتياح العاصمة العام 2019م قد حان، ذلك أن الاتفاق الأمني العسكري قد ضمن
عدم تكرار محاولة إخضاع الغرب الليبي بقوة السلاح، وأن اتفاق النفوذ الاقتصادي
البحري وترسيم الحدود البحرية الذي تم توقيعه مع حكومة الوفاق في نوفمبر 2019م لا
يمكن تمريره أو توظيفه بفاعلية دون تفاهمات مع جبهة الشرق (طبرق ـ الرجمة)، وتقارب
مع القاهرة الداعمة لهما، الطرف الأساسي في منتدى المتوسط المتعلق بغاز ونفط شرق
البحر المتوسط.
نفط وغاز شرق المتوسط كان المحرك الرئيسي لاندفاع تركيا ودخولها على
خط الصراع الليبي، ولا يزال المحرك للتقارب التركي المصري وتطبيع العلاقة مع مجلس
النواب الليبي، وربما قريبا مع القيادة العامة التابعة لمجلس النواب.
ولأن الحال كذلك، فإن أنقرة ستكون مستعدة لأي تفاهمات مع القاهرة
تتعلق بالملف الليبي إذا ضمنت مصالحها ولو في الحد الأدنى من كعكة شرق المتوسط وفي
المصالح الاقتصادية في ليبيا، لكنها لن تنجر إلى تنازلات كبيرة وسريعة تفقدها
الأوراق التي تمسك بها والتي أهمها الحليف في الغرب الليبي والوجود العسكري هناك.
طبرق والرجمة ومن خلفهما القاهرة يطالبون بتغيير حكومي، قد لا ترفض
أنقرة هذا الاشتراط، لكنها لن تغامر بتنصيب رئيس حكومة يعمل ضد مصالحها ويقوض
حلفها في الغرب، وهنا ستكون مساحة المناورة والتفاوض إلى أن تستقر الأمور وتنتهي
ربما إلى تشبيك مصالح جديد يعزز الوجود والحضور التركي في البلاد.
أنقرة ستكون مستعدة لأي تفاهمات مع القاهرة تتعلق بالملف الليبي إذا ضمنت مصالحها ولو في الحد الأدنى من كعكة شرق المتوسط وفي المصالح الاقتصادية في ليبيا، لكنها لن تنجر إلى تنازلات كبيرة وسريعة تفقدها الأوراق التي تمسك بها والتي أهمها الحليف في الغرب الليبي والوجود العسكري هناك.
ختاما ينبغي الإشارة إلى مسألتين: الأولى هي الحاجة لفهم سلوك
القيادات والأنظمة السياسية باتزان وعدم الغلو في تقييمها وتوصيفها لمجرد تصريحات
ومواقف بدت متناغمة مع المبادئ والقيم التي يؤمن بها المعارضون للظلم والاستبداد
والمطالبون بالحريات والحقوق، ذلك أن جُل القادة السياسيين، حتى الإسلاميين منهم،
يقعون تحت ضغط المصلحة الخاصة ببلدانهم بل حتى أحزابهم وأشخاصهم، ويبدون في نهاية
المطاف متناقضين مع أنفسهم الأمر الذي يشكل صدمة لمن بالغ في التعاطف معهم
وتأييدهم، فالمسألة تتعلق بالمصالح في كثير من الأحيان.
ويذكرني التغيير الجذري في موقف أردغان من السيسي وتعهده بأن لن
يصافحه وقد تلطخت يداه بدماء المصريين المعارضين له (إشارة إلى حادثة ميدان
رابعة)، فقد كان للراحل القذافي موقفا متشددا من حسني مبارك، وريث الراحل السادات
الموقع على اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، والمدافع بقوة عنها، حتى أنه أطلق عليه
لقب حسني "البارك" أي الجاثي على ركبتيه، وصارت هذه تسميته في الإعلام
الليبي "الثوري الجماهيري" لسنوات، ثم انتهت مواقف القذافي المتشددة إلى
إحضان وقبلات، بل صار مبارك حليفا قويا للقذافي حتى سقوط نظامهما العام 2011م، دون
أن يتزحزح مبارك قيد أنملة في علاقته مع الصهاينة.
الثانية وهي المتعلقة بموقف الطرف الذي تحالف مع تركيا لصد العدوان،
فالخطر المترتب على اجتياح حفتر وحلفائه الإقليميين والدوليين كان في تقديرهم أكبر
من مفسدة التحالف مع تركيا وتوقيع اتفاقيات معها، خصوصا وأن شواهد عدة تؤكد أن لا
ضرر سيترتب على تلك الاتفاقيات، بل تتحقق مصالح لليبيا كما في اتفاقية ترسيم
الحدود البحرية، مع التنبيه إلى ضرورة التريث وعدم التسرع والحماس في نقل حالة
تطابق المصالح إلى خانة الحلف القائم على القيم والمبادئ الذي تعضده الثقافة
والتاريخ، فهذا المنحى يضر ولا ينفع.