تجاوز الدبلوماسي الأمريكي "هنري ألرفد
كيسنجر" قرنا وبضعة شهور (27
أيار/ مايو 1923- 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023)، قضاها عرضا وطولا في
السياسة
وعوالمها المتشعبة في بلده، وأساسا في أكثر مناطق العالم توترا واضطرابا، محللا
جيواستراتيجيا رفيعا، وصانعا لأبرز الخطط وأعقد السياسات وأعظمها تأثيرا على تطور الأحداث
والوقائع الدولية، ولأنه ثاقب الذكاء، وقارئ جيد لفكر "ماكيافللي"
ونصائحه في فن القيادة والريادة والحكم، فقد حظيت آراؤه بنصيب وافر من التطبيق،
والانتشار والديمومة، وكثيرا ما صدقت توقعاته واستشرافاته للمستقبل.
لم يكن "هنري كيسنجر" منتج أفكار وحسب، بل ظل على امتداد عقود من
مساره الدبلوماسي صانع نظريات عملية لأعقد المشاكل في العالم، في الشرق الأوسط
والعالم العربي، وفي آسيا، وأوروبا، كما استمر فاعلا مؤثرا وموجها لسياسة بلاده،
سواء كوزير للخارجية، أو مستشار للأمن القومي، أو كناصح ومصاحب لعدد من الرؤساء
الأمريكيين، أو كعضو في الحزب الجمهوري. فعلى امتداد مساره الطويل تعرض حضورُه للنقد
والاعتراض تارة، والتقدير والتثمين طورا، لكن ميزة الرجل استمراره منتجا للأفكار،
ومؤثرا في الأحداث الدولية، بل إن العديد من الرؤساء والفاعلين في النظام الدولي توسلوا
إليه، والتمسوا آراءه ونصائحه، والكثير منهم طبقوا وعملوا بتوجيهاته.
لم يكن "هنري كيسنجر" منتج أفكار وحسب، بل ظل على امتداد عقود من مساره الدبلوماسي صانع نظريات عملية لأعقد المشاكل في العالم، في الشرق الأوسط والعالم العربي، وفي آسيا، وأوروبا، كما استمر فاعلا مؤثرا وموجها لسياسة بلاده، سواء كوزير للخارجية، أو مستشار للأمن القومي، أو كناصح ومصاحب لعدد من الرؤساء الأمريكيين، أو كعضو في الحزب الجمهوري
فهكذا، أهّلته خلفيته الأكاديمية العالية (من خريجي جامعة هارفارد) وإجادته
لغتين بالغتي الأهمية (الألمانية والإنجليزية) أن يُنتج أعمالا فكرية وعلمية عميقة،
شكلت مصادر لا مندوحة عنها في فهم تعقيدات النظام الدولي، وآليات اشتغاله، ومنها: "الدبلوماسية
من الحرب الباردة إلى يومنا هذا" (1995)، "مذكرات هنري كيسنجر في البيت الأبيض/
1968-1973"، "النظام الدولي/ تأملات في طبائع الأمم ومسار التاريخ، و"جرب
السلام الصعب"، والقائمة طويلة.
ثم إن قيمة "هنري كيسنجر" تكمن في انخراطه الواسع في قضايا
النظام الدولي وتعقيداته، وهو ما جلب له أحيانا سيلا من النقد والاعتراض، كما حصل
في حرب فيتنام إبان ولاية الرئيس "نيكسون"، حين تقلد منصب وزير الخارجية
ومستشار الأمن القومي ما بين 1969 و1977، ومن أدواره البارزة خلال هذه الحقبة المساهمة
في التسوية التي أعقبت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل وباقي الدول
العربية، من خلال ما سمي وقتئذ "الدبلوماسية المكوكية"، التي اختبر
خلالها "كيسنجر" نظريته الشهيرة "السمكة الكبيرة"، في تأكيد
على أن اصطياد "السمكة الكبيرة"، ويقصد دولة مصر، يفتح الطريق أمام اصطياد
الأسماك، أي باقي الدول العربية، وهو ما حصل فعلا حين فتح التطبيع المصري الإسرائيلي
في عهد الرئيس السادات السبيل أمام مفاوضات لاحقا مع الفلسطينيين وبعض الأقطار
العربية المعنية مباشرة بالصراع مع إسرائيل.
كما كان له دور بارز في التقارب الأمريكي الصيني مع بداية عقد سبعينيات
القرن الماضي (1971)، إضافة إلى مساهمته في تأجيج التنافس الأمريكي السوفياتي،
والسعي الدؤوب إلى إضعاف المنظومة الاشتراكية. أما أبرز الانتقادات الموجهة إليه
فتخص ملف حقوق الإنسان، حيث كان يساند بكل السبل النظم الموالية للغرب، المنتهكة
لحقوق الإنسان، كما حصل مع نظام "بينوشي" في الشيلي، وحرب الإبادة في
كمبوديا، وسياسات القمع في باكستان، واليونان وإندونيسيا وقتئذ.
تجد شخصية عَراب الدبلوماسية الأمريكية "هنري كيسنجر" المتأرجحة
بين النقد والاعتراض من جهة، والثناء والتقدير من جهة أخرى، مصادر تفسيرها في طبيعة
الفلسفة التي اعتمدها لفهم النظام الدولي، والسعي إلى صياغة مداخل ونظريات لتفسير
قضاياه وآليات اشتغاله. فقد تبنى الفلسفة الواقعية منهجا وسلوكا، وظل على امتداد
كل مساره متمسكا بها، بغض النظر عن حجم الانتقادات التي وُجهت إليه، والتي أفضت في
بعض اللحظات إلى إحداث تأثير عميق على مركزه، كما حصل حين اضطر، تحت وقع إضرابات
الطلاب، لمغادرة موقعه الأكاديمي في جامعة كولومبيا عام 1977، وقبلها في موجة الاحتجاجات على الرئيس نيكسون في حرب فيتنام، أو لاحقا حين تم تعيينه من قبل
الرئيس "بوش الابن" على رأس لجنة التحقيق في هجمات11 أيلول/ سبتمبر 2001،
فتنحّى من منصبه في عضون أسابيع بسبب رفضه الكشف عن قائمة عملاء شركته الاستشارية والإجابة
عن أسئلة بشأن تضارب المصالح.
عقيدته الواقعية دفعت به من خلال كتاباته الغزيرة التي تجاوزت 21 مؤلفا، ناهيك عن محاضراته ولقاءاته الإعلامية، ومذكراته من أربعة أجزاء، أن يجهر بما يفكر فيه دون تردد، وأن يدافع عن آرائه بدون كلل. وبغض النظر عن طبيعة الاعتراضات الموجهة إليه، فقد دافع، باسم الواقعية وبسبب أصوله اليهودية، عن دولة إسرائيل، وحقها في الوجود والديمومة والاستمرار، وباسم الواقعية نفسها عمل بشكل مباشر وغير مباشر على إدخال فكرة التطبيع في الفضاء السياسي العربي
فعقيدته الواقعية دفعت به من خلال كتاباته الغزيرة التي تجاوزت 21 مؤلفا،
ناهيك عن محاضراته ولقاءاته الإعلامية، ومذكراته من أربعة أجزاء، أن يجهر بما يفكر
فيه دون تردد، وأن يدافع عن آرائه بدون كلل. وبغض النظر عن طبيعة الاعتراضات الموجهة
إليه، فقد دافع، باسم الواقعية وبسبب أصوله اليهودية، عن دولة إسرائيل، وحقها في الوجود
والديمومة والاستمرار، وباسم الواقعية نفسها عمل بشكل مباشر وغير مباشر على إدخال فكرة
التطبيع في الفضاء السياسي العربي، وقد ظل أحد مهندسي السلام في الشرق الأوسط من
هذا المنظور بالذات.
وقد استمر، من زاوية أخرى، محرضا شرسا على إضعاف إيران والحيلولة بينها
وبين امتلاك الأسلحة النووية، كما لم يتردد في التنبيه إلى الخطورة التي تمثلها
روسيا بالنسبة لأوروبا والعالم، وحين نشبت الحرب بينها وبين أوكرانيا قدم نصائح،
وهو في آخر مراحل حياته، إلى الرئيس الأمريكي "جون بايدن" في هذا الشأن.
إنه "هنري ألفريد كيسنجر" الذي أجبرت النازية عائلته على الهجرة
القسرية إلى أمريكا عام 1938، وهو طفل يافع لم يتجاوز الخمسة عشر عاما، ليصبح على
رأس عظماء مهندسي الدبلوماسية الأمريكية، وصناع السياسات الدولية، والمتوقعين باقتدار
لتطور أحداثها ومآلات وقائعها.