حين
ينضب معين السياسة والدبلوماسية، تتجه الدول نحو الحرب كإحدى أدوات السياسة الخشنة.
والحرب في العصر الحديث، تعبير عن صراع بين دول تعبر عنها جيوش تخضع لإرادات سياسية
وتنظمها قواعد وقوانين، حتى وإن خُرقت بين الفينة والأخرى. ومع نجاعة تجارب الحرب
بالوكالة، اتجهت كثير من الدول لدعم أطراف عسكرية هنا وهناك، من دون غطاء رسمي أو
دبلوماسي لتحقيق مآرب أخرى، وللتحلل من الالتزامات المترتبة على انخراط قواتها
بشكل رسمي في أية معارك، فهناك حروب لا تحسمها سوى
المليشيات المدعومة أكثر من
الجيوش النظامية.
أبرز
القوى التي تستخدم هذا الأسلوب هي إيران؛ بدعمها للحوثيين في اليمن وحزب الله في
لبنان. وقد دخلت
روسيا على الخط عبر استخدام قوات فاغنر في حروبها الخارجية، وصولا
لقوات
الدعم السريع الموازية للجيش
السوداني، التي كانت تؤدي مهام عسكرية داخلية
وخارجية خارج المنظومة الدفاعية الرسمية السودانية. وكانت مهام هذه المليشيات
والقوات، هي مهام عسكرية بحتة وليس لها أي ذراع سياسي أو رأي مستقل عن الجهة التي
ترعاها؛ حتى انحرف مسار الأحداث في كل من روسيا والسودان، إلى زاوية صعدت بموجبها
هذه المليشيات لواجهة السياسة، ثم إلى الصراع المباشر على السلطة والنفوذ مع القوى
التي ترعاها.
تطور مسار الأحداث بشكل درامي خلال الأيام القليلة الماضية في روسيا، ليظهر أن ما توقعناه هو سيناريو متفائل مقارنة بما أعلنه قائد قوات فاغنر يفغيني بريغوجين؛ الذي دعا بشكل صريح ومباشر إلى حمل السلاح ضد الجيش الروسي، متعهدا بالزحف نحو موسكو.
لقد
أشرنا في
مقال سابق قبل أكثر من شهرين لهذه الظاهرة؛ باعتبار أن التجارب التاريخية
تخبرنا أنها تحاكي تجربة المماليك، كقوات عسكرية تلجأ إليها الإمبراطوريات في لحظات
معينة للقيام بمهام عسكرية، ثم ما تلبث هذه المهام أن تتحول إلى مهام سياسية
وتنتقل للصراع على السلطة.
تطور
مسار الأحداث بشكل درامي خلال الأيام القليلة الماضية في روسيا، ليظهر أن ما
توقعناه هو سيناريو متفائل مقارنة بما أعلنه قائد قوات فاغنر يفغيني بريغوجين؛
الذي دعا بشكل صريح ومباشر إلى حمل السلاح ضد الجيش الروسي، متعهدا بالزحف نحو
موسكو، قبل أن يتدخل رئيس بيلاروسيا للوساطة بينه وبين الكرملين. أي إن البلاد
كانت على شفا حرب أهلية بسبب الخلاف المعلن بين قائد فاغنر ووزير الدفاع الروسي
سيرغي شويغو، الذي يتهمه بريغوجين بالتقاعس عن دعم وإمداد قوات فاغنر.
قبل
إعلان
وساطة بيلاروسيا، قالت وزارة الدفاع البريطانية؛ إن ولاء قوات الأمن الروسية
وخصوصا الحرس الوطني خلال الساعات المقبلة، سيكون حاسما. ويبدو أنه كان حاسما
بالفعل، وإلا لما تحقق هدف الوساطة بهذه السرعة، وهو دخان يشي بأن هناك نار صراع ما
بين الأجهزة الأمنية والعسكرية الروسية، خرج بعضه للعلن مع تذمر قوات فاغنر الذي
تحول إلى تمرد مؤقت.
التجربتان الروسية والسودانية، تخبرانا بأنه لا يمكن الفصل بين ما هو سياسي وما هو عسكري حين يتعلق الأمر بمليشيات تعمل بالوكالة وبالتوازي مع الجيوش النظامية. كما أن مستقبل صراع هذه المليشيات الداخلي سيحدد مستقبل الدول التي ترعاها.
لا
يمكن أن نرى هذا الخلاف والصراع الروسي- الروسي خارج دائرة الخلاف والصراع ذاته
بين وزير الدفاع السوداني عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان
دقلو المعروف بحميدتي. فنقاط التشابه كثيرة من حيث طبيعة تشكيل الجيش وقوات الدعم
السريع والصراع على النفوذ، ومن ثم الرغبة في الحسم العسكري والاتهامات المتبادلة.
ومن العجيب، أن الولايات المتحدة تتهم قوات فاغنر بتسليح قوات الدعم السريع، الأمر
الذي تنفيه هذه الأخيرة.
التجربتان
الروسية والسودانية، تخبرانا بأنه لا يمكن الفصل بين ما هو سياسي وما هو عسكري حين
يتعلق الأمر بمليشيات تعمل بالوكالة وبالتوازي مع الجيوش النظامية. كما أن مستقبل
صراع هذه المليشيات الداخلي سيحدد مستقبل الدول التي ترعاها، ففي حال كسبت الجيوش
النظامية هذه الجولة وأخضعت المليشيات لنفوذها وحكمها، فستعود آليات الصراع
التقليدي لسيرتها الأولى، أما إذا حسمت أي مليشيا المعركة لصالحها، فسنكون أمام واقع
عسكري وسياسي جديد فيه قدر كبير من السيولة والخطورة، ولن تنجو منه دول الجوار
التي تجد نفسها من الآن في موقف لا تُحسد عليه في الحالتين الروسية والسودانية،
وهو ما انعكس على ردود فعلها المترددة تجاه ما يجري.