(تذكروا معي)
على شاطئ أحد البحار أسس قوم
من المرتحلين مجتمعاً اقتصاديا يقوم على الصيد والتجارة، بعد فترة تعرض استقرارهم
وتعرضت تجارتهم لتهديدات قطّاع الطرق والقراصنة، واهتدى شيوخ التجار الحكماء إلى
مهادنة اللصوص والتعاون معهم بدلا من استنزاف القدرة والأموال في محاربتهم بغير
تكافؤ، وتطورت الأمور على الأفضل.. انتعشت ثروة التجار وتمكن أهل القوة من حماية
استقرار المجتمع حتى صاروا آلة القوة الحاكمة عسكريا..
هكذا باختصار يليق بالحكايات
تأسست إحدى الدول العربية الصغيرة، وبرغم صعود القراصنة إلى الحكم، لم ينس التجار
أصل قطاع الطرق ولم يوافقوا على تزويج بناتهم من عائلات الحكام، إلا بعد تطورات
كثيرة ومريرة لم تختف بشكل نهائي من الذاكرة..
قبل أن تتعجبوا من هذه
الحالة، تذكروا معي نشأة أمريكا وكثير من الدول الأوروبية التي تبلورت بعد معارك
دامية، وصل فيها الحكم على القبائل الأقوى عسكريا..
من هذه الزاوية يمكن تفسير
نشوء واختفاء الكثير من الدول، باعتبارها مغامرة عسكرية لعصابات كانت في الأصل
خارجة عن القانون، ثم صارت هي القانون وكل شيء..
يمكن تأمّل مسألة الشرعية، والسؤال عن مصدرها الأفضل والأعقل والأكثر أخلاقية.. هل هو الانتصار في معركة مسلحة بطريقة صراع الفتوّات في حواري القاهرة القديمة؟ أم البحث في مطالب المعيشة العادلة للحرافيش من سكان الحارة؟
(تخيلوا معي)
كانت هناك تقارير استخباراتية
تتحدث عن تنظيم خاص لضباط
مصريين داخل الجيش، وكانت القوة الدولة القديمة
(بريطانيا) والصاعدة (أمريكا) تنوي الحفاظ على الحكم الملكي، وتم بالفعل إبلاغ
الملك فاروق ودعمه في اعتقال قادة الضباط الأحرار.. ألم يكن الأرجح إعدام البعض
وسجن البقية وانقطاع علاقتهم بالسلك العسكري والسياسي، باعتبارهم متمردين إرهابيين
خونة؟!
اذهبوا في التخيل إلى أبعد من
ذلك، وفكروا في أن صالح سرية أو عبود الزمر أو هشام عشماوي نجح في اقتناص السلطة
في مبارزة عسكرية خاطفة.. ألم يكن هو من يضع الدستور والقوانين ويضع معها خصومه في
السجون أو على المشانق؟!
من هذه الزاوية يمكن تأمّل
مسألة الشرعية، والسؤال عن مصدرها الأفضل والأعقل والأكثر أخلاقية.. هل هو
الانتصار في معركة مسلحة بطريقة صراع الفتوّات في حواري القاهرة القديمة؟ أم البحث
في مطالب المعيشة العادلة للحرافيش من سكان الحارة؟
(تأمّلوا معي)
تابعت التصريحات المثيرة التي
أدلى بها رجلِ الأعمالِ الروسيِ يفجيني بريجوجين ضد وزارة الدفاع الروسية وإخفاقاتها
في العمليات العسكرية في أوكرانيا، قال الرجل ما
يستحيل على أي مسؤول روسي أن
يقوله ويصل لسماع بوتين، وندد بأخطاء وخسائر وفشل غريمه وزير الدفاع سيرجي شويجو،
مؤكدا أن قوات
فاجنر التي يملكها، هي التي حفظت ماء وجه العسكرية الروسية..
القرارات والقوانين التي
أصدرها بوتين بشأن العملية العسكرية كانت كافية لمحاكمة بريجوجين بتهمة التآمر على
الجيش وضرب معنوياته، لكن لم يحدث شيء من هذا، بالعكس استمرت جهود جيش فاجنر
الخاص، بالرغم من تطاوله على المؤسسة الأم وقائدها، واتهامها بتعمد عدم تمويل
جنوده وتعريض حياتهم للخطر..
تأملوا معي أن هذا حدث في
بلادنا:
تذكروا مثلا خلاف ثغرة
الدفرسوار في مصر بين رئيس أركان حرب أكتوبر الفريق الشاذلي، وبين رئيس الجمهورية
وقائد الجيش الأعلى..
تذكروا مثلا ما يحدث في
السودان الآن بين الجيش الحكومي و
قوات الدعم السريع (فاجنرية التشكيل والاتجاه)،
وكيف انقلب التعاون إلى صراع دموي،
تذكروا مثلا ما يحدث في
الصومال من صراع مسلح بين
جيوش خاصة يتضاءل أمامها وجود وهيبة الجيش النظامي.
تذكروا معي طريقة تعامل
المؤسسات العسكرية العربية مع فكرة النقد والمساس بأدائها، وتذكروا أيضا طريقة
تعامل الأنظمة مع تنظيمات العنف الغامضة في المنطقة، فقد صار من الشائع أن هذه
التنظيمات مخترقة من جانب أجهزة استخبارات غربية كثيرة، ويتم استثمارها لخدمة
استراتيجيات دول لها مكانتها على خريطة السياسة العالمية، لكن أجهزة الاستخبارات
العربية (لا سمح الله) بريئة من التعامل مع هذه التنظيمات المجرمة.. "مالناش
دعوة بالإرهابيين الأشرار لا في السر ولا في العلن".
تذكروا معي طريقة تعامل المؤسسات العسكرية العربية مع فكرة النقد والمساس بأدائها، وتذكروا أيضا طريقة تعامل الأنظمة مع تنظيمات العنف الغامضة في المنطقة، فقد صار من الشائع أن هذه التنظيمات مخترقة من جانب أجهزة استخبارات غربية كثيرة، ويتم استثمارها لخدمة استراتيجيات دول لها مكانتها على خريطة السياسة العالمية
من هذه التأملات خرجتُ بأسئلة
افتراضية: ماذا لو فكّرت الجيوش النظامية وأجهزة الاستخبارات في حلول لمشاكل
التمرد، وحالات الخروج عن المؤسسة (وهي ليست قليلة)، وفكّرت في فتح مسار خاص
لتشكيل جماعات مسلحة تقوم بمهام تخدم الأهداف العامة مثلما يستخدم بوتين فاجنر،
ومثلما تستخدم فرنسا عشرات الفرق في أفريقيا، ومثلما تفعل بريطانيا صاحبة أكبر جيش
خاص في الخفاء، ومثلما فعلت أمريكا في حرب العراق من خلال "بلاك ووتر"
التي لم تفككها حتى بعض الفضائح غير القانونية وجرائم الحرب التي ارتكبتها، فكل ما
حدث أنهم غيّروا المالك وغيّروا الاسم من "بلاك ووتر" إلى "أكاديمي"،
بل زادت أمريكا من شركاتها الأمنية وأوكلت إليها مهام أمنية كثيرة في استراتيجية
"الحرب بالوكالة" التي تنتعش بقوة الآن في أوكرانيا، لدرجة تأسيس جيش أمريكي
خاص باسم الموسيقار "موزار" لمواجهة الشركة الروسية التي تحمل اسم
الموسيقار "فاجنر"؟
والطريف في هذه القصة أن
الأمريكان يلعبون على المفارقة بشكل إعلامي، لأن الموسيقار ريشارد فاجنر لا علاقة
له بالمليشيات الروسية، لكي يتخذ المنافسون اسم "موتسارت". القصة أن
مؤسس هذه الفرقة كان ضابطا
روسيا مستقيلا بعد حرب الشيشان يدعى "ديميتري
أوتكين"، وبالطبع حصل على موافقة ودعم المخابرات العسكرية الروسية لتأسيس
كتيبته الخاصة لدعم القوات الروسية النظامية في عملية ضم شبه جزيرة القرم عام
2014، ثم توسعت الكتيبة وامتد نشاطها إلى جبهات كثيرة في العالم بينها ليبيا
والسودان، وقبلهما سوريا التي شهدت بذور الصراع بين "فاجنر" ووزارة
الدفاع الروسية.
فقد
نشأت العداوة الشخصية بين
"شويجو" و"بريجوجين" بعد تراجع الأول عن اتفاق مع مالك فاجنر
لتقديم تغطية جوية لزحف مشاة القوات الخاصة نحو حقول النفط في شرق سوريا والسيطرة
عليها، حيث لم تكن فاجنر تملك طائرات أو منظومة دفاع جوي، لكن الاتصالات بين الروس
والأمريكان انتهت إلى إفساح المجال للقوات الأمريكية في غارة على المنطقة دون تدخل
الروس، ولم يتم إبلاغ قادة فاجنر بالغارة، فتكبدت الفرقة خسائر كبيرة نتيجة القصف
الجوي، ولما التقى بريجوجين مع شويجو في إحدى حفلات الاستقبال الرسمية واستفسر
منه، كشف عن شعوره المعادي للفرقة الخاصة: التزموا حدودكم.. هل تريدون أن تصبحوا
أبطالا؟ وأشار إلى قادة أسلحته الذين يحضرون الحفلة بملابسهم الرسمية: هؤلاء هم
الأبطال..
كل هذا وبوتين لا يتدخل مع
طرف ضد طرف، فقط ينسق ليستفيد من أفضل النتائج، وهذا ما جعلني أفكر في العقلية التعددية
التي تهتم بالمصالح القومية الكبرى من خلال استيعاب الاختلافات الفرعية، واحتواء
نزوع بعض الضباط إلى تحقيق بطولات خاصة، أو السعي لمكاسب مادية أكبر من الرواتب
الوظيفية، أو الاحتجاج النقدي على قرارات وأساليب أداء للمؤسسة الأم، وهو الأمر
الذي لا تقدر عليه العقلية الأحادية في المؤسسات الهرمية التي تقوم على التنميط
والطاعة العمياء (نفذ الأمر ولو غلط).
وقد قدمت جيوش العالم حلولا
كثيرا لنزعة النقد داخل هذه المؤسسات (سنوضح بعضها في مقالات مقبلة)، بينما في مصر
مثلا، يتم إعفاء أو طرد أي ضابط تثبت التقارير أن رأيه لا يروق للقادة، بينما
بأسلوب الاحتواء كان من الممكن أن يتم احتواء حالة مثل
هشام عشماوي، والاستفادة
منها حتى لو بعد خروجه من الخدمة النظامية، لكن الضابط الذي يحال إلى التقاعد في
حالة مثل عشماوي، يتم الحكم عليه بإعدام طموحه ومستقبله، ولا يبقى أمامه إلا العمل
كحارس شخصي في شركة أمنية، أو افتتاح مشروع خاص، أو الجلوس على "قهوة
المعاشات"، أو محاولة الانتقام من المؤسسة التي قضت على مستقبله والانقلاب
ضدها بغطاء أيديولوجي أو بدون.
(فكروا معي)
ألا تدعونا ظاهرة الجيوش الخاصة في العالم وإقبال الدول الكبرى على دعمها ورعايتها والاستفادة منها، في البحث عن سبل للسيطرة على جماعات العنف المتفجرة في اجتماعاتنا لأسباب موضوعية كثيرة، وبدلا من استنزاف القدرة في مواجهات عمياء في أجواء من الظلام، يمكن بذل الجهود الناعمة للاحتواء وتعديل اتجاه الرصاص، واستخدام القوة العشوائية المتولدة نتيجة صراعات اجتماعية واقتصادية في جبهات لا يليق بالمؤسسات الرسمية التورط فيها؟
إذا كانت لدينا دولة تتخلى عن
التزاماتها العامة في التعليم والصحة وتفكك القطاع العام وتبيع شركاتها على
مستثمرين أجانب، وترتمي باستسلام في ساحة السوق المفتوح والأنشطة الحرة، وإذا
تمادت الدولة في التشظي والانقسام الرأسي والجغرافي وعجزت عن تحقيق التجانس
المجتمعي واحتواء الجميع تحت مظلة دستورية عادلة.. هل يمكن لهذه الدولة أن تتخذ من
ضعفها قاعدة معترف بها للتعامل مع واقع جديد منقسم ومشحون بنزوع للتمرد والخصوصيات
الفئوية؟
هل يمكن لهذه الدولة الهشة أن
تتخلى بعقلانية عن تصوراتها المركزية منتهية الصلاحية، وتمنح المختلفين حقوقا
ووجودا وحرية عمل، وتكتفي بوضع سقف وضمانات للحفاظ على التنوع دون إضرار للمصالح
الاستراتيجية للدولة؟
ألا يعني هذا التفكير في ديمقراطية
تستوعب حفتر وخصومه دون احتراب عسكري أو سياسي، كما تستوعب دقلو والبرهان دون
شلالات دم يدفع ثمنها الشعب؟
ألا تدعونا ظاهرة الجيوش
الخاصة في العالم وإقبال الدول الكبرى على دعمها ورعايتها والاستفادة منها، في
البحث عن سبل للسيطرة على جماعات العنف المتفجرة في اجتماعاتنا لأسباب موضوعية
كثيرة، وبدلا من استنزاف القدرة في مواجهات عمياء في أجواء من الظلام، يمكن بذل
الجهود الناعمة للاحتواء وتعديل اتجاه الرصاص، واستخدام القوة العشوائية المتولدة
نتيجة صراعات اجتماعية واقتصادية في جبهات لا يليق بالمؤسسات الرسمية التورط فيها؟
والسؤال الأخير تحديدا يحمل
قدرا كبيرا من المخاطر، والتحديات تدعونا لمناقشته في ضوء تجارب الماضي وورطة
الحاضر آفاق المستقبل.
وفي المقال المقبل نعود
(بمشيئة الله) إلى القضية بتناول تفصيلي يحفز على التفكير، ويخرج بنا من قداسة
البابوات في العصور الوسطى إلى فضاء نهضة مغايرة، كانت جماعات العنف الشعبية أحد
الأسس التي بنت عليها أوروبا جسر التخفف من أعبائها الداخلية، وتوجيه العنف من
الداخل إلى جبهات خارجية عبر الحملات الصليبية التي تحتاج لقراءة معاصرة ومتصلة
بالعجز الإقليمي عن التعاطي مع آبار العنف المحلي المخيف.
[email protected]