بعد اندلاع حرب أكتوبر عام 1973 غنّى عبد الحليم حافظ: عاش اللي قال الكلمة بحكمة وفي الوقت المناسب/ عاش اللي قال للرجال عدوا القنال. وفي الوقت ذاته غنّى الشيخ إمام: دولا مين ودولا مين دولا عساكر
مصريين/ دولا مين ودولا مين دولا ولاد الفلاحين/ دولا الورد الحر البلدي .. يصحى يفتح اصحى يا بلدي/ دولا خلاصة مصر يا ولدي .. دولا عيون المصريين.
أغنيتان عبرت واحدة منهما عن الحرب من موقع سلطة القرار، وعبرت الأخرى عن الجنود الذين أرادوا صنع الحرية للشعب المصري. منذ ذلك الوقت والافتراق بين القطبين يزداد ويتعمق من موقع تناقض المصالح، مصلحة أهل الحكم الذين أبرموا اتفاق كامب ديفيد.
الجندي محمد صلاح الذي نفذ
عملية العوجا وقتل ثلاثة جنود
إسرائيليين ينتمي الى «عيون مصر» وهو فعلاً من أولاد الفلاحين الذي عبر بعفوية وبشكل رمزي عن رفض علاقات القوة التي جعلت مصر وشعبها مهيضَي الجناح. مارس صلاح عملياً حق النقض على القهر والغطرسة الإسرائيلية باعتبارها أهم مخرجات « السلام « المزعوم منذ 44 عاماً ويزيد. منذ ان وعد السادات بحل كل مشاكل مصر عبر السلام الأميركي الإسرائيلي وانتهى وعده الى العكس، حيث تفاقمت وتعقدت كل المشاكل الى المستوى الذي لا يُحتمل.
لم تكن عملية الجندي صلاح منفصلة عن واقع بلاده، ولا يعقل ربطها فقط بعمليتين فرديتين أخريين كعملية الجندي سليمان خاطر عام 1986، وعملية أيمن حسن عام 1990. ما حدث لا ينفصل عن انتفاضة 25 يناير في العام 2011 بمشاركة ملايين المصريين، لا ينفصل عن انتفاضة شعب أراد الخروج من إسار علاقات التبعية وسيطرة نظام مستبد وفاسد، وأراد تجاوز مخرجات اتفاقات كامب ديفيد التي اتاحت هيمنة اسرائيلية اميركية على مصر والمنطقة العربية، وجعلت الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى، وأدت إلى فقدان مصر لدورها ومكانتها الاقليمية. نعم، لا يمكن فصل عملية العوجا عن معاناة المصريين ونضالاتهم العفوية وشبه المنظمة، ونضالهم من أجل الديمقراطية والحرية والخبز والكرامة التي بلغت أوجها، والتي جرى قمعها من قبل نظام مبارك المستبد من جهة، او الالتفاف عليها من قبل الاخوان المسلمين من جهة أخرى، وكلاهما اعتمد على دعم دول البترو دولار والغاز دولار وأميركا والغرب.
قرأت اسرائيل على لسان مسؤوليها عملية صلاح بمنطق العجرفة، وزادوا في عجرفتهم عندما عزا حاييم لفتسون في «هآرتس»، إلى إهمال مصر في العمل ضد اللاسامية وضد إسرائيل، وتساءل حول اي إجراءات يتخذها الجيش والشرطة المصريين من أجل تربية منتسبيهم على السلام! وأضاف: يمكن التمييز بين الانتقاد المبرر لاسرائيل وبين الكراهية الشديدة واللا سامية التي تؤدي الى عمليات قتل وإرهاب! وخلص الى طلب وقف تقديم إسرائيل تنازلات لمصر، داعياً الى استخدام السلطات المصرية لكل الأدوات التعليمية وكل الأدوات الجنائية من أجل تربية رجالها على السلام!. وكان قد اعترف في بداية مقاله بعدم وجود سلام بين الشعبين وان المصريين لا يزورون اسرائيل، والإسرائيليون غير مرغوب فيهم في مصر. هذه الرؤية تعكس المفهوم الإسرائيلي للسلام الذي لا ترى فيه سلطات الاحتلال والثقافة الإسرائيلية السائدة غير القبول بإسرائيل والتطبيع معها والحفاظ على أمنها كما هي دولة احتلال مهيمنة على دول المنطقة. ولا يهمها الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها مصر. ما يهم إسرائيل من العلاقة مع مصر هو الأمن الذي يستدعي نشر ثقافة السلام مع إسرائيل في صفوف الجيش المصري والتصدي لسياسة العداء لإسرائيل في صفوف الشعب المصري بالترافق مع استمرار هيمنتها على دول المنطقة. ولا تكترث إسرائيل الى استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية ولا تكترث بوصمها من قبل مؤسسات المجتمع الدولي بممارسة تطهير عرقي وتمييز عنصري، واستباحة أراضي وموارد وحقوق شعب بكامله وارتكاب جرائم حرب. بل إنها تتهم كل من يعترض ويرفض ويدين ويقاوم هذه الانتهاكات الفاقعة، بالعداء للسامية وكره اليهود كيهود. مطلوب مكافأة دولة الاحتلال على انتهاكاتها وجرائمها وتحولاتها الى الكاهانية العنصرية كما فعل أصحاب الاتفاقات الإبراهيمية ومعها السودان والمغرب.
من المنطقي ان تكره وترفض الشعوب العربية الاحتلال والعنصرية وجرائم القتل والتطهير العرقي وازدراء القانون الدولي والهيمنة والنهب والقهر والإذلال، وخنوع الأنظمة وتبعيتها. هذا هو الشرط الإنساني لتطورها كشعوب، كما هو الشرط الإنساني لتطور وتقدم كل الشعوب في العالم.
وهذا يفسر استطلاع معهد واشنطن للدراسات أن موقف 84% من الأردنيين هو رفض أي نوع من العلاقات مع إسرائيل بالرغم من «السلام» المبرم بين إسرائيل والأردن منذ 3 عقود.. وهذا ينطبق على الشعب المصري والسوري واللبناني والجزائري والعراقي والتونسي وشعوب أخرى. ومن غير الشعب الفلسطيني يعرف الاحتلال والاستعمار الاستيطاني ونظام الابارتهايد بعد أن ذاق الامرّين على مدى قرن من الصراع؟ إزاء ذلك لم يكن مفاجئاً احتضان جنين ورام الله وغزة وكل المتعطشين للخلاص من الاحتلال للجندي محمد صلاح واعتباره رمزاً وشهيداً وبطلاً.
غير أن الخروج من عنق الزجاجة لا يتأتى من عملية هنا وأخرى هناك، يفصل بينهما فارق زمني قد يطول أو يقصر، ولا يتأتى من توظيف مثل هذا العمل في صراع ديني يحرف الأنظار عن التحرر من الاستعمار والهيمنة والتبعية. الدرس الأهم من تجربة ربيع الشعوب هو التأسيس لنمو ربيع جديد مستقل، يستنهض كل من له مصلحة في التحرر من الاحتلال والتبعية والاستبداد.
(الأيام الفلسطينية)