شهدت علاقة
حماس
بالأردن محطات متعددة تراوحت بين الوصل والقطيعة، حيث شكلت التطورات الإقليمية
والتقلبات الداخلية والتفاعلات المتلاحقة للقضية
الفلسطينية ملامح هذه العلاقة،
لتتعدد مؤخرا أطروحات تفعيل
العلاقات بينهما، إذ غدت حماس لاعبا مؤثرا بمعادلة
الصراع مع الاحتلال، وبوابة مهمة لمن أراد التأثير أو عزل ساحته عن التأثر
بتفاعلات القضية الفلسطينية، ولما تعنيه القطيعة من غلق للأبواب أمام أدوار يمكن
للأردن أن يلعبها، في الوقت الذي تسعى دول بعيدة جغرافيا للتأثير بتفعيل العلاقة
مع حماس إدراكا منها لمحورية دورها.
وفي المقابل،
تعرف حماس أبعاد المشتركات الفلسطينية مع الأردن جغرافيا وديموغرافيا وتاريخيا
وتنظر للعلاقة بعين الأهمية، ولإدراك الطرفين بأنهما لا يمتلكان ترف الابتعاد عن
بعضهما كون المصالح والمشتركات تحتم الاقتراب، ما زالا يحاولان المفاضلة بين صيغ
تفاعل مناسبة لكليهما.
بلغ انكماش علاقة
الطرفين ذروته جراء اتهامات أردنية لحماس بتهريب أسلحة عبر الأراضي الأردنية 2006م، ليبادر
الأردن بدعوة حماس لحوار استكشافي 2008م كمحاولة للوصول لتفاهمات تدير علاقتهما، وانعكس ذلك إيجابا بزيارات قادة حماس للأردن ولو في إطار
البعد الاجتماعي، فقد حملت
زيارة مشعل 2022م مؤشرات رغبة أردنية على
تحسين العلاقة بحماس، تمثلت ببرنامج
الزيارة ومدتها واتساع مساحة التواصل فيها مع المكونات السياسية مقارنة بسابقاتها.
تعيش العلاقة سكونا فاترا، فما زال الأردن يتبنى توجهات سياسية مختلفة عن برنامج حماس المقاوم ويصرّ على إبقاء العلاقة بالمستوى الإنساني دون السياسي، رغم ما يبصره الأردن من زيادة فارقة في ثقل حماس السياسي
حاليا
تعيش العلاقة سكونا فاترا، فما زال الأردن يتبنى توجهات سياسية مختلفة عن برنامج
حماس المقاوم ويصرّ على إبقاء العلاقة بالمستوى الإنساني دون السياسي، رغم ما
يبصره الأردن من زيادة فارقة في ثقل حماس السياسي، الذي بدأ باتفاق مكة فاتفاقيات
التهدئة التي أبرزتها كشريك سياسي موثوق وملتزم، لتزداد مراقبة الأردن لدوره
الفعّال بصدّ عدوان 2014م، ولتغدو حماس أكثر جذبا بمعركة سيف القدس 2021م وما
تلاها، حين أظهرت رشدا سياسيا بعدم انجرارها لانفعالات لا تناسب حساباتها الوطنية خلال
عدوان 2022م على غزة.
فقد أكدت استقلالية
قرارها عن أي مؤثر، ناهيك عن نمو رصيد العلاقات السياسية لحماس والذي يؤكده تراجع
دول وازنة في المنطقة عن التصادم بحماس وما نتج عن ذلك التراجع من إعادة ترتيب
العلاقات، ليمثل ذلك عوامل طمأنة قد تقلل من محاذير وحساسية حسابات الأردن
السياسية إزاء العلاقة. وبعد أن فك الارتباط الإداري بين حماس وتنظيم الإخوان الأردني
تنخفض المخاوف من وجودها وأدوارها داخل المجتمع الأردني، مستبعدة بذلك كل
السيناريوهات المستوحاة من مرحلة أيلول الأسود، حيث تسعى حماس لتثقيل تمثيلها
السياسي خدمة لبرنامجها المقاوم واتساقا مع حجم الوجود الفلسطيني في الأردن، وإدراكا
لأهمية دور الأردن في ملف القدس واللاجئين ودوره الحيوي كدولة من دول الطوق
المؤثرة وليس أكثر من ذلك.
إلا
أن رغبة حماس بتفعيل العلاقة لا زالت أوضح مقارنة بالتردد الأردني رغم أهميتها له،
فما زال الأردن يشهد عدة أزمات متعلقة بالتنمية السياسية وأخرى تقليدية مرتبطة
بالمنهجيات الاقتصادية، ليرشح انعكاس تلك الأزمات على الواقع بحدوث هزّات داخلية
لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، ما أدى لبروز أصوات داخل نظامه تدعو لبناء سياسات
موضوعية تجاه القضية الفلسطينية خصوصا، وخلق حالة توافقية تساعد على حفظ الاستقرار
السياسي والاجتماعي من عدة جوانب.
وفي
حين يدرك النظام السياسي الأردني مدى تأثره بغياب التضامن العربي، لبنيته الهشة
ومحدودية موارده، يسعى دوما لتعويض هذا الضعف بدوره الإقليمي، ولكنّه يعاني من افتقاره
لأوراق التأثير وبدائل التطوير الضامنة لاستمرار هذا الدور، ليستند في تنشيطه على
القضية الفلسطينية التي شكلت تقليديا ملامح هذا الدور في منظومة السياسات الدولية في
المنطقة. فلقد ارتبط الأردن باكرا بإرهاصاتها وتفاعلاتها، ما يؤشر لحتمية
الاستدارة الأردنية تجاه حماس الفاعل الأساسي فيها، ولكن هذه الاستدارة تخضع
لمقاربات الأردن لمحاذير الإخلال بالتوازنات السياسية القائمة في مصفوفة علاقاته
الأسيرة لتموضعه الإقليمي التقليدي، ولمؤثرات علاقته بالسلطة الفلسطينية وإرهاصاتها؛
ما يعني أن تفعيل علاقته بحماس ربما يحتاج مزيدا من الوقت.
ولكن
ومع ما يمثله تزامن صعود يمين إسرائيل مع تعافي يمين أمريكا من انتكاسة جديدة
لمشاريع التسوية، وما يوازي ذلك من تصاعد للأفعال الثورية الفلسطينية، يبدو أنها ستكون
مؤثرة في بنية السلطة التي تستعد لتدشين مرحلة ما بعد عباس؛ وما يحمله ذلك من
مخاطر قد تنعكس على بنيية النظام السياسي الفلسطيني وإعادة ترتيب لفواعله، تزداد أهمية
التحرك الأردني خارج السياق المألوف له سابقا من باب التحوط على المصالح الأردنية
التي ستتأثر حتما بأية تغيرات طارئة على العمق الفلسطيني، وهو ما يفسر إجراء الأردن
لاتصالات مع كافة قيادات المكون السياسي لفلسطيني 1948م.
ورغم أن مقاربة
الملك عبد الله الثاني السياسيّة قائمة على الاستثمار بمصداقية الأردن لدى الإدارة
الأمريكية وتستند على العلاقة المباشرة معها للتأثير بالتصورات الأمريكية للمنطقة،
بخلاف مقاربة والده المرتبطة بالعلاقة المباشرة بالقيادات الصهيونية لخدمة رؤاه، إلا
أن الإدارة الأمريكية نفسها تصطدم بعنجهية اليمين الصهيوني الحاكم حاليا، مِما
يُضعِـف جهود الأردن، ناهيك عن أن التأثير الأردني بالأصل محدود مقارنة بتأثير
اللوبيات الصهيونية وجماعات اليمين الأمريكية.
كما أن جزءا مهما
من تبريرات بقاء النظام الأردني مرتبط بمدى فاعليته في أداء الأدوار المطلوبة منه أمريكيا
بغض النظر عن رغباته، وبعد أن تقلصت هوامش ومساحات هذه الأدوار وانحسرت لصالح غيره
جراء موجات تطبيع من دول عربية بمستويات متساوقة مع اليمينين الأمريكي والإسرائيلي
بشكل حاد، لا يقوى الأردن على هضم تبعات هكذا مستويات تنطوي على مهددات لاستقراره
الداخلي، ناهيك عن عدم وضوح قيادة السلطة الفلسطينية وضعف موثوقيتها للقضاء على
هواجس فكرة الوطن البديل، ما قد يحثّه على التلويح بخيارات أخرى لفتح آفاق سياسية
عبر تفعيل العلاقة مع حماس كمسكّن فعّال لهذه التبعات وكإجابة ملحّة للتساؤلات عن
البدائل الاستراتيجية لديه.
فرغم بروز حماس
كلاعب موثوق لطبيعة برنامجها السياسي الملتزم باحترام كيانية الأردن، عبر تمسكها باستعادة
أرض فلسطين التاريخية للفلسطينيين لا غيرها كثابت عقدي من ثوابتها، إلاّ أن
الطبيعة الوظيفية للأردن تكبح اندفاعه تجاه العلاقة مع من يمثل مصالحه
الاستراتيجية، ليستعيض عن ذلك بتكثيف جهوده الدافعة لإقامة دولة فلسطينية أيا كان
شكلها كونها مصلحة ملحّة لتفادي تجسيده كوطن بديل.
وللمفارقة، فحتى
هذا السياق سيحمل الأردن لمحاولة توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء انقسامه السياسي
للمضي باتجاه إقامة هذه الدولة، ليعيده ذلك مجددا أمام إلحاح العلاقة الصحيّة مع
حماس، أحد طرفي الانقسام والفاعل المؤثر بكل مسارات القضية الفلسطينية. إذ أن حجم
القبول الشعبي لمقاومتها يعزز علاقاتها السياسية بدول وكيانات مؤثرة بالمنطقة ما
يزيد من قيمة العلاقة معها، كما يدرك الأردن أن دوره المهم له في القدس محل ترحيب
من حماس المطالبة بالدفع به إلى الواجهة أكثر فأكثر للحد من الإضرار الصهيوني
بالمقدسات ومحاصرة تغوّل التهويد.
إن قطيعة حماس مع
النظام السوري سابقا وتغريدها بمواقف مختلفة عن بعض حلفائها المحوريين عزز الثقة
باستقلالية القرار لديها، ما دفع الأردن لإعادة استطلاع الخريطة السياسة للمنطقة.
وللمفارقة مجددا فإن عودة هذه العلاقة قد تدفع الأردن أكثر للاقتراب من حماس
لمحاولة جذبها وإيقاف اندفاعها تجاه المحور الإيراني ولإحداث توازن قد يكون مطلوب
في إطار أدوارها بالمنطقة، أو للاستفادة منها لاحقا بلعب أدوار تتبلور كمصلحة أردنية
ولا تمانعها حماس. فبينما ترقب أطراف معنية اهتمام حماس المتزايد بالبعد السياسي
للصراع، وتلحظ ملامح تطور بمقارباتها الواقعية المتناغمة مع القانون الدولي، يرى
هؤلاء أن تفعيل علاقاتها بالأردن سيساعد ويسرع تعزيز براجماتيتها، أملا بإحداث إزاحة
مؤثرة بمواقفها.
من الطبيعي أن ترغب حماس بعلاقات متوازنة بعمقها العربي، وبالأخص الأردن، لحرصها على تنويع خياراتها الاستراتيجية، ولتخفيف الحصار السياسي والاقتصادي المفروض عليها وصولا لإنهائه، كما أن تصفير المشكلات مع المحيط العربي يساعدها على محاصرة التطبيع مع المحتل، كما أنه مطلب لإبراز عدم اصطفافها في محور على حساب محور
في المقابل فمن الطبيعي أن ترغب حماس بعلاقات
متوازنة بعمقها العربي، وبالأخص الأردن، لحرصها على تنويع خياراتها الاستراتيجية،
ولتخفيف الحصار السياسي والاقتصادي المفروض عليها وصولا لإنهائه، كما أن تصفير
المشكلات مع المحيط العربي يساعدها على محاصرة التطبيع مع المحتل، كما أنه مطلب لإبراز
عدم اصطفافها في محور على حساب محور والتأكيد على رؤيتها بتوحيد كل الجهود لنصرة
الحق الفلسطيني.
فهي تدرك أن القضية الفلسطينية تفتقر
لحاضنة دولية، وأن وزنها الحالي يقوم على محصلة الجهد الفلسطيني بشكل رئيس؛ ما
يدفعها لزيادة مساحة التمثيل السياسي ومحاولة إزاحة كل العوازل التي توضع بينها
وبين الحواضن العربية. وكدولة محيطية حاضنة لنسبة مهمة من الفلسطينيين، تدرك حماس
محورية دور الأردن وأهمية الحضور للتأثير بتوجهاته التي تنعكس على القضية
الفلسطينية سلبا أو إيجابا، كما تدرك أهمية الظرف الراهن وانعكاساته الممكنة
داخلياً بوجود تحضيرات لمرحلة ما بعد عباس، فتحاول أن تكون في قلب المشهد لقلب
المعادلات لصالح مقاومتها.
ولكن رغم كل هذه المصالح المشتركة، إلا أن الأردن ما زال مترددا بالذهاب مع
حماس في علاقة يمكن وصفها بالاستراتيجية، ولا زال يرى بأن التحولات غير كافية
للتفاعل السياسي معها في المنظور القريب، ولا تعدو أطروحات بعض أطراف نظامه
الحالية عن كونها قراءة تكتيكية راغبة بتفاهمات محدودة تعبر عن مخاوف من ضبابية
القادم، وقد تخفت أصواتها بخفوت هذه المخاوف كما حدث سابقا في العديد من محطات
التفاعل السياسي بينهما، خصوصا كلما لاح في الأفق طرح جديد لدور محتمل لها في
مسارات التسوية المصنّعة أمريكيا.