يساور القوى
اللبنانية القلق لأيّة متغيرات تعيشها القضية
الفلسطينية، كون لبنان إحدى دول الطوق، ولحالة الترابط ولوجود لاعبين مشتركين في
البلدين، ولاسيما أن شبح الوجود الفلسطيني السابق لايزال ماثلا بخيال اغلب هذه
القوى التي تنتهج التوازن بالعلاقة مع القطبين الفلسطينيين فتح وحماس للنأي بالنفس
عن التفاعلات الفلسطينية وانعكاساتها نتيجة الوجود الفلسطيني العريض في الساحة
اللبنانية المتسمة بالسيولة السياسية، ورغم ان الوجود الفلسطيني مادة للتجاذب
والمزايدة السياسية بين الاطراف اللبنانية الا ان حماس تحافظ على علاقات تتراوح ما
بين المتين والمقبول مع تيارات الساحة اللبنانية، في ظل المصالح والانحيازات
للفواعل الدولية.
تحاول "حماس" وسط هذه التعقيدات صياغة معادلة علاقات تخدم
قضيتها، وتنأى بها عن أي معترك يعيق مقاومتها، في حين تحدد التيارات اللبنانية
مواقفها وتفاعلاتها مع القضية الفلسطينية بناء علي خلفياتها الأيديولوجية
وارتباطاتها الخارجية، وعلى احتكاكها سلباً أو إيجاباً بالفلسطينيين تاريخيا، حيث
تحظى حماس بالتفاعل الايجابي والاستقرار النسبي مع الرئاسات الثلاث، ولكنها تتأثر
بتغيير الاحزاب الشاغلة للرئاسات نظرا
لارتباطها بأجندات اقليمية ودولية، ما يفسر تفاوت نظرتها لحماس بين الرفض والقبول.
فتحظى "حماس" بعلاقات وطيدة مع الجماعة الاسلامية المنقسمة
بين الانحياز لحزب الله وتفاعلاتها مع المكون السني الأبرز تيار المستقبل صاحب
العلاقات الباردة والمستقرة بـ "حماس"، فالطائفة السنية لا تتفاعل مع
حماس بشكل ايجابي بالمجمل فهناك الأحباش المتسمة نظرتهم بالعدائية تجاهها وكذلك
التناقضات مع السلفية وتياراتها.
رغم علاقتها القوية بحزب الله الشريك بمحور المقاومة، إلا أن الكثير
من التباينات تكسو مواقف الطرفين بعدة قضايا لاعتبارات تناقض المصلحة أحيانا،
فالحزب لا يرحب بالتواجد العسكري لـ "حماس" بلبنان ويحرص على اخضاعه
لسقوف لا تهدد احتكاره للمقاومة، كما أن هواجس التوطين وتوازنات الطوائف تؤثر
بتوجهاته، بينما تعتبر حركة "أمل" أقرب لحركة "فتح" تاريخيا
منها لـ "حماس" وإن كانت علاقاتها الحالية بالحركتين تتسم بالتوازن
النسبي.
يعتبر حزب القوات وحزب الكتائب نفسيهما تاريخيا نقيض للفلسطيني أيا كان انتماؤه تأثرا بالإرث السابق مع "اسرائيل"
لكن تطورا مهما طرأ على موقفيهما تمثل بإعلانهما الوقوف لجانب الفلسطينيين
ليتمكنوا من حقوقهم، بينما تتأثر علاقات تيار المردة باقترابه من النظام السوري
وحزب الله، كما يمكننا القول بأن "حماس" تحظى بعلاقات جيدة مع التيار
الوطني الحر الاكبر تمثيلا للطائفة المسيحية والمكون الاساسي بتحالف 8آذار، وتتسم
علاقات "حماس" بالحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط بالاحترام
المتبادل وندرة التفاعل، فيما يعتبر وئام وهاب وحزبه التوحيد العربي اكثر اقترابا
منها لقربه من حزب الله، ولتأثره بمواقف النظام السوري.
لبنان الدولة تعاني من هشاشة نتيجة سياسة المحاصصة الطائفية وتعقيدات
متشعبة خلقها خلل بنيوي يتمثل في منظومة الحكم القائمة على دولة الأحزاب العميقة
الراعية لمنظومة مشوّهة بالفساد، ما يفشل التوصل لرؤية وطنية مشتركة، كما أن توظيف
الفواعل الخارجية لزيادة المكاسب الداخلية، أدى لتراجع ثقة المواطن بالدولة
ودورها، فلدى كل حزب أجندته المقدمة على المصلحة الوطنية، لتطفو أزمات مركَّبة
نتيجة تحول لبنان لساحة سجال بين الفواعل الخارجية عبر وكلائهم الداخليين.
يتخوف الفلسطينيون من استخدامهم بتلك السجالات؛ كون أوضاعهم تضعف
مناعة الوقوف بوجه ذلك، في ظل معاملتهم من منظور أمني وتغييب المنظور الاجتماعي،
فالدولة اللبنانية تمنع الفلسطيني من ممارسة 70 مهنة ولا تدرجه ضمن مشاريع التنمية
الدولية وتتحفظ على اندماجه تذرعا بالتوطين، ليرزح الفلسطينيون تحت ظروف معيشية
قاهرة يرونها غير مبررة، إذ أظهر استطلاع لمركز الزيتونة أن 80% منهم لا يرون حلاً
لمشكلتهم سوى بالعودة لأراضيهم، ولا يوافق 98.3% منهم على مقترحات التوطين ومنحهم
الجنسية اللبنانية، لتبقي المخيمات بين حالة الترميز لروح التحرير، وحالة المعاناة
لإصرار البعض على تشويهها بإظهارها بؤر
تهديد، كتبرير للتعاطي الامني معها وخدمة لأجندات أخرى.
في 1969م، اجتمع وفد لبناني بآخر لمنظمة التحرير، لتوقيع "اتفاق
القاهرة" المنظم للوجود العسكري الفلسطيني، مخوّلا الفلسطينيين حق الاشراف
على مخيماتهم، على أن تستمر الدولة اللبنانية بممارسة صلاحياتها بكل الظروف.
وفي 1985م أُشعلت حرب المخيّمات، لإنتاج قيادة فلسطينية بديلة تحقق
سيطرة دمشق، ولتتوقف بتسوية 1988م بعنوان "تنظيم قواعد العمل الفلسطيني في
مخيّمات بيروت" دون أن تضمن للدولة اللبنانية أي دور، ولتفضي لخروج مقاتلي
عرفات من مخيّمات بيروت، بالتزامن مع حرب تثبيت سيطرة دمشق على المخيّمات.
تبقى المهمة الملحة قيام الأقطاب الفلسطينية الفاعلة بالتوافق على مرجعية شاملة لمعالجة مشكلات اللاجئين والتوصل لرؤية موحدة حول دورهم ودور سلاحهم، وإقناع المكونات اللبنانية بالعمل لدعم هذه الرؤية، وحثها على مقاربة الملف الفلسطيني بمنظور شامل وليس أمني فقط، كون حل مشكلات اللاجئين ومخيماتهم يثبت حق العودة، ويمنع التوطين، وينعكس إيجاباً على استقرار البيئة اللبنانية.
وعام 1991م سلمت المخيمات سلاحها الثقيل والمتوسط للسلطات اللبنانية
وبقي السلاح الفردي فقط كعامل طمأنة للفلسطينيين بعد مجزرة صبرا وشاتيلا 1982م،
وبغياب مرجعيات وطنية جامعة وتعدد المرجعيات الفتحاوية بين أمني وسياسي، وبين
السفارة الفلسطينية ومسؤول الملف برام الله، والتصادمات المسلحة بين مؤيدي دحلان
وعباس، استمر استغلال الميليشيات اللبنانية للفلسطينيين، باستدراجهم لصراعاتها على
النفوذ، ولاستخدامات أخرى تزيد من معاناتهم وتكشف ظهرهم للأونروا، ولمجموعات
متطرفة، ولأجهزة أمنية تتربص لاختراقهم وتوظفيهم لأجندات بعيدة عن مسار الصراع مع
الاحتلال.
أعادت أحداث مخيّم البرج الشمالي 2021م والاشتباكات الداميّة بين
حماس وفتح مسألة سلاح المخيمات للضوء، ولكن بتطور قدرات حماس اللافت وضبطها للنفس
وعدم مجاراة الفتنة، ورفضها لتأجيج الفوضى الرامية للقضاء على الوجود الفلسطيني
بلبنان، بفتح باب التهجير الضار بحق العودة أهم الثوابت الفلسطينية، وتفريغ دول
الطوق من اللاجئين كونهم الحاضنة الشعبية الطبيعية للمقاومة.
معالجة سلاح فلسطيني المخيّمات يجب أن ينطلق من دعم المقاومة داخل
فلسطين، وبتجاوز أساليب التصادم الداخلي، الذي يضعف القضية الفلسطينية ماديا
ومعنويا، فعلى ما يبدو أن إطلاق القذائف الصاروخية من منطقة رأس العين بجنوب مدينة
صور إبان معركة سيف القدس، والانفجار الذي وقع بمخيم برج الشمالي، والذي كان
يستخدم كمستودع للصواريخ حسب المزاعم "الاسرائيلية" وفق تقريرها بمعهد ألما
للدراسات 2021م، أن "حماس تزيد من أنشطتها العسكرية بلبنان لأجل تهديد
إسرائيل من جبهتين في آن"، في محاولة لزيادة التخويف من حماس وإظهارها
كإرهابية تستغل اراضي الآخرين ، وذلك لعزلها وقطع الطريق على محاولات تطوير
علاقاتها الدولية وتعميق الشرخ الداخلي بتعظيم مخاوف البعض منها، رغم تقديرات
الاحتلال نفسه بان قوة "حماس" لا تغير الميزان القائم في معادلات الساحة
اللبنانية بل تصرف من خلالها انتباه "اسرائيل" إبّان معركة في غزة ليس
أكثر، في حين لا يرى آخرون ذلك بمعزل عن الدعوات المتلاحقة لتكريس وحدة الساحات،
بما فيها لبنان التي لم تغلق ملف صراعها مع "اسرائيل" المحتلة لمزارع
شبعا.
وجود مئات آلاف الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم المدنية، بما لهؤلاء
من خلفيات وولاءات، ورغبات باستئناف المقاومة المسلحة من لبنان، واستحضار تجربة
مشاركتهم بالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990م)؛ يجعل اللبناني والفلسطيني أكثر
حساسية وحذراً من التدحرج لازمة مركبة بينهما، لذا فإن "حماس" تحصر
تحركاتها في سياق دعم المقاومة هناك، والتصدي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعزيز
صمود اللاجئين باتجاه العودة، كما ان فعاليتها بين اللاجئين يجسد شرعيتها لتمثيل
الفلسطينيين الناظرين لمنظمة التحرير كفاقدة لبوصلتها بعد أوسلو المتعارض وأهداف
نشأتها، ليزداد تفاعل حماس مع السفارات والفواعل السياسية في الساحة اللبنانية كون
القيود على التحرك اقل تعقيدا.
تواجه "حماس" احتكارين معقدين في الساحة اللبنانية الأول
متمثل باحتكار حزب الله للمقاومة المسلحة، والثاني محاولات احتكار "فتح"
للمخيمات، وهي تدرك أن الاحتكارين يحتاجان لجهد كبير للتأثير فيهما آخذةً بعين
الاعتبار ألا تشكل مخاوف الجهتين المتناقضتين عوامل جذب تجاه بعضهما لما يحتكرانه،
وهي تعي بأن احتكار حزب الله مرتبط بتعقيدات قرار السلم والحرب اللبنانيين، التي
لا تقوى على هضمها مفضلة التفاهم مع الحزب إزاء الأفعال المقاومة بساحته، وتكتفي
بالنظر للبنان كرافد للخبرات والمساندة اللوجستية لاعتبارات تضاؤل التكلفة وتفوّق
الجدوى، وقد عززت "حماس" وجودها المسلح داخل المخيمات وفق القواعد
القائمة ولكنها تحتاج لجهود أكبر لتصبح قادرة على إدارة المخيمات وغربلة اشكالاتها
وتسديد بوصلتها نحو دعم المقاومة دون السماح لاحد باستغلال حالتها بأخذها بعيدا عن
استحقاقات الثوابت الفلسطينية.
فالتعامل مع المكونات السياسية اللبنانية بقدر عالٍ من التوازن
والحكمة والحذر، في ظل أزماتها المتداخلة، وبيئتها المرشحة دوما لانتفاضات شعبية
ومتغيرات قد تصحبها ارتدادات فجائية؛ في ظروف انهيار اقتصادي مهولة، يجعل العمل
فيها سيراً بحقل ألغام، كون أطرافها تبحث دوما عن أكباش فداء للنجاة بنفسها، لذا
تحرص "حماس" بالرغم من علاقاتها الوثيقة بحزب الله على تفعيل علاقاتها
بالانفتاح على الجميع، للنأي بالفلسطينيين عن التشابكات اللبنانية، ولتؤكد على
أنهم بجانب لبنان الموحد ذي السيادة وليسوا طرفًا في نزاعاته الداخلية، مما يزيد
ارتياح الأطراف لـ "حماس" ويعزز مصداقيتها وأهميتها لأي حليف أو محور في
ظل نجاحها بالمحافظة على تنويع علاقاتها وخياراتها الآنية والبعيدة.
لتبقى المهمة الملحة قيام الأقطاب الفلسطينية الفاعلة بالتوافق على
مرجعية شاملة لمعالجة مشكلات اللاجئين والتوصل لرؤية موحدة حول دورهم ودور سلاحهم،
وإقناع المكونات اللبنانية بالعمل لدعم هذه الرؤية، وحثها على مقاربة الملف
الفلسطيني بمنظور شامل وليس أمني فقط، كون حل مشكلات اللاجئين ومخيماتهم يثبت حق
العودة، ويمنع التوطين، وينعكس إيجاباً على استقرار البيئة اللبنانية.
*باحث متخصص بالشؤون الدولية