في
ذكرى وفاة زعيم
تونس الراحل الحبيب بورقيبة يوم 6 نيسان (أبريل)
2000 يحتدم الجدل حول الرجل بين طرفين متطرفين الأول يؤله الزعيم والثاني يشيطنه
والحقيقة أن الرجل إنسان لا ملاك ولا شيطان.
نشرت مجلة (ليدرز) وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة تتمثل في رسالة
شكوى وتظلم كتبها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى وكيل الجمهورية سنة 1990 وهو
في معتقله الأخير بمدينة المنستير، حيث فرض عليه الرئيس السابق زين العابدين بن
علي بعد أن عزله من السلطة إقامة جبرية قسرية حولت ذلك الأسد المريض إلى سجين وراء
قضبان مهينة لا يزوره إلا من يختارهم زبانيته بحذر وخوف والمزيد من الإذلال
والتشفي.
ولكن الذي لفت نظري بعد نشر الوثيقة ذلك السيل من التعليقات بأقلام
رجال من جيلنا الذي عمل مع بورقيبة ومنهم المتحسر المنافق عما كابده الزعيم بينما
هو خلال 13 سنة من محنة بورقيبة لم يحرك ساكنا ولم يقل كلمة حق ولم يصدع برأي..
وتلك كانت حال الأغلبية من وزرائه السابقين الذين لم ينبسوا ببنت شفة (ماعدا قلة
شجاعة ويتيمة)، فبن علي كان لا يرحم من يقول كلمة حق وكان يغري بالمناصب أو بمجرد
السلامة كل من عمل مع الزعيم فانتبذ أغلبهم مكانا قصيا (مع الفارق العظيم بين معنى
الأية الكريمة وواقع الخذلان)، واستمرت مأساة بورقيبة 13 عاما ختمتها مهزلة جنازته
التي أخرجها بن علي مثل مسرحية سخيفة خوفا من جثمان الزعيم بعد الخوف من الزعيم
حيا.
شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في
تعداد خصال الزعيم لا من منطلق الحقيقة التاريخية بل من منطلق الإنتقام من عهد
خلفه زين العابدين ومن عهد خلفاء بن علي من حكومة الترويكا وما بعدها. فوظفوا هذه
المناسبات بطريقة عقائدية وحزبية لا تليق بتاريخ تونس الذي يجب أن يبقى من مشمولات
أنظار المؤرخين لا في أيدي السياسيين. وانقسم المتكلمون إلى مؤله للزعيم بكونه كان
ملاكا معصوما وإلى شاتم له بكونه كان شيطانا رجيما!
وقرأت العجب العجاب في قلب الحقائق وتدليس التاريخ.. وأغرب ما قرأت
هو أن الزعيم ليلة 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 87 ليلة انقلاب وزيره الأول عليه كان
في تمام مداركه العقلية وكان متمتعا بكل طاقاته العقلية، وهذا مجرد هراء لا يستقيم
لأن الخطأ القاتل لبورقيبة هو تشبثه بأوهام السلطة وهو في أرذل العمر ثم المراهنة
على أحد الضباط المهووسين بالسلطة زين العابدين بن علي الذي كلفه الزعيم بمهمة
القضاء على من يعتبرهم أعداء نظامه.
شرع البعض هذه الأيام يمجدون بورقيبة بمناسبة ذكرى وفاته فتباروا في تعداد خصال الزعيم لا من منطلق الحقيقة التاريخية بل من منطلق الإنتقام من عهد خلفه زين العابدين ومن عهد خلفاء بن علي من حكومة الترويكا وما بعدها.
وأنا بفضل علاقاتي الوثيقة مع رجلين عاشا في قلب المرحلة القاسية والتراجيدية
من حياة بورقيبة وهما رئيس حكومته محمد مزالي وسكرتيره الخاص محمود بلحسين أعرف
أسرار وخفايا تلك المرحلة المبكية المضحكة من "غرق" بورقيبة في لجة
العمر و"غرق" تونس في لجة الإستبداد. وهي أسرار أحتفظ بها اليوم لنفسي
حتى تهدأ عواصف الأحقاد والمزايدات وأنشرها على جيل المؤرخين النزهاء لكتابة تاريخ
أمين لتونس.
يشهد الله أنني شخصيا بحكم منصبي في مطلع الثمانينيات كنت قريبا من
الزعيم أجلس كما قال لي هو عديد المرات على نفس كرسيه الذي بدأ منه الكفاح وهو
كرسي مدير صحيفة العمل لسان الحزب التي أسسها هو وأدارها منذ سنة 1932، لكن
علاقاتي القديمة قبل المسؤوليات مع الزعيم وحزبه لم تكن بلا مغامرات لأني كنت إلى
جانب الحق في مناسبات وطنية عديدة منها قضية المظلمة المسلطة على المناضل النقابي
والدستوري أحمد بن صالح فزج بنا نظام بورقيبة أنا والصديقين أحمد الهرقام وعامر
سحنون في الإيقاف يوم 4 أيلول (سبتمبر) 1969 و"استنطقنا" محافظ الشرطة
حسونة العوادي وحرمنا من السفر لمواصلة الدراسة حين صادرت الشرطة جوازات سفرنا ثم
كنت إلى جانب الصديق محمد مزالي حين عزله بورقيبة من وزارة التربية بتهمة تعريب
برامج التعليم وأسلمتها وقاومنا عقلية التغريب القهرية لتونس على أيدي المنبتين ومرة
أخرى اضطهدنا البوليس السياسي واستنطقني مفتش أمن الدولة محمد كدوس وحجزوا جواز
سفري في بداية السبعينيات..
ثم شاءت أقدار تاريخية أن يعين الزعيم بورقيبة نفس
محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فواصلنا كفاحنا الصامد من أجل التعريب وتأصيل
التعليم وضخ المزيد و(الممكن المتاح) من الديمقراطية في مؤسسات الدولة وربط بلادنا
بمحيطها الحضاري العربي والإسلامي والإفريقي بعد طول جفاء ووشح بورقيبة صدري
بوسامي الإستقلال والجمهورية ولكن الدسائس لم تهدأ ضد تيارنا المتمسك بالهوية وتنويع
التعاون مع الصين وتركيا والخليج وإفريقيا داخل الحزب الدستوري وبتخطيط قديم من
زين العابدين نفسه والذين تجندوا لخدمته وبأيد خارجية إلى أن تم نفينا ومصادرة
بيوتنا وتشتيت أولادنا وحتى اغتيال مناصرينا (تم قتل إثنين من الوطنيين الدستوريين
هما الحاج بوبكر العمامي المقاوم للاستعمار الذي زجوا به معي في قضية كيدية عام
1990 وعلى السعيدي رفيق كفاحنا والمعارض لبن علي و لمدير بوزارة الخارجية والذي
أغتيل في كانون الأول (ديسمبر) 2001 في ظروف مشبوهة وغريبة، وهو دليل على أن ضحايا
الإستبداد النوفمبري من كل التيارات ومنها التيار الدستوري الأصيل في أبعاده
المتمسكة بالحريات والهوية).
واليوم نرى المتاجرين بتاريخ بورقيبة إما بالتمجيد المطلق وإما
بالشيطنة المطلقة بينما الحقيقة هي أن بورقيبة إنسان لا هو بالملاك ولا بالشيطان
أنجز أعمالا كبيرة ولكنه ارتكب أخطاء كبيرة أيضا، ولم تكن حادثة الإطاحة به خارجة
عن سياق مسيرته هو ذاته لأنه هو الذي أرسى تقاليد اضطهاد أسلافه والتنكيل بمعارضيه
ومنافسيه.
اليوم نرى المتاجرين بتاريخ بورقيبة إما بالتمجيد المطلق وإما بالشيطنة المطلقة بينما الحقيقة هي أن بورقيبة إنسان لا هو بالملاك ولا بالشيطان أنجز أعمالا كبيرة ولكنه ارتكب أخطاء كبيرة أيضا، ولم تكن حادثة الإطاحة به خارجة عن سياق مسيرته هو ذاته لأنه هو الذي أرسى تقاليد اضطهاد أسلافه والتنكيل بمعارضيه ومنافسيه.
أليس هو الذي ظلم الطاهر بن عمار الزعيم الوطني موقع وثيقة استقلال
تونس؟ وأليس هو الذي سجن وسلب العائلة المالكة بعد أن ساعده أمراؤها بالمال والسلاح؟
وأليس هو الذي أمر بوضع المتهمين بمحاولة الإنقلاب عام 1962 مقيدين بالسلاسل من
أرجلهم كالدواب سنوات طويلة في سجن غار الملح؟ وأليس هو الذي اضطهد اليوسفيين ثم
الشيوعيين ثم البعثيين ثم الإسلاميين ثم البنصالحيين ثم النقابيين ثم المزاليين وطلق
رفيقة عمره بصورة تناقض تماما مواقفه من المرأة، حتى أنه في آخر مرحلة من عمره انهارت
الدولة وقال لي محمد مزالي صباح يوم 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 "الجنرال
بن علي انقلب على سعيدة ساسي وليس على بورقيبة"..
وقال لي أحمد بن صالح في نفس اليوم: "إن السلطة كانت ملقاة على
قارعة الطريق فجاء بن علي والتقطها دون عناء" النتيجة هي أن تسلط الزعيم هو
الذي صنع تلك الآلة الجهنمية (مفترسة الرجال) وزيتها وأعدها للاستعمال حتى أكلته
نفس الألة بدون رحمة وبلا أي نصير.
وللتاريخ فهذا لا يمنع من إعادة الاعتبار لأحد قادة تحرير تونس ومؤسس
دولتها الحديثة ومعمم التعليم والصحة والرجل النظيف الذي لم يملك حجرة ولا شجرة.
أروع وأبلغ ما نفهم به تناقضات الإنسان نجده في الأية الكريمة: "ونفس وما
سواها فألهمها فجورها وتقواها"، صدق الله العظيم.