في
اتجاه أبعد ما يكون عن وعود "تصحيح المسار" ومجازات "العلو
الشاهق" و"
السعادة الخام"، يبدو أن الوضع
التونسي سيعرف المزيد من
التأزم في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وهو أمرٌ تؤكده المعطيات
الإحصائية للواقع. ولا شك في أن تأزم الأوضاع سينعكس سلبيا على واقع الصحة النفسية
والجسدية لعموم التونسيين.
ولو
أردنا البحث عن مؤشر يختزل الهوّة بين انتظارات التونسيين من ثورتهم وبين واقع
حالهم، لما وجدنا أفضل من مؤشر السعادة العالمي الذي تصدره شبكة حلول التنمية
المستدامة التابعة للأمم المتحدة. فبعد انتقال ديمقراطي فاشل سياسيا واقتصاديا،
وبعد "تأسيس ثوري جديد" أعظم فشلا في إدارة كل الملفات، تقهقرت تونس سنة 2022 إلى المرتبة 120 عالميا بعد أن كانت تحتل في السنة السابقة المرتبة 86.
أما من جهة الترتيب عربيا، فقد احتلت تونس سنة 2021 المرتبة الثامنة عربيا، ولكنها تراجعت لتحتل المرتبة العاشرة من بين 13 دولة عربية شملها المسح سنة 2023.
قبل
الثورة، كان ممّا تروّجه الآلة الدعائية لنظام المخلوع أن تونس هي "بلد الفرح
الدائم"، وكانت منظومة الحكم تحرص على أن تظل كل الأرقام والوقائع التي تنسف
هذه الدعوى بعيدة عن وسائل الإعلام وعن أي سجال عمومي. فقضايا من مثل عدد حالات
الانتحار وعلاقة هذه الظاهرة بخارطة
الفقر والتهميش أو بخيارات الدولة الجهوية، أو
ارتباط العديد من الأمراض النفسية والجسدية بخارطة الفقر والتهميش والإذلال
الممنهج لغالبية الشعب وجهاته المحرومة، أو العلاقة بين الاكتئاب الذي يعاني منه
جزء كبير من التونسيين وبين سياسات الدولة وبنيتها الجهوية- الريعية- الزبونية، أو
غياب الخدمات الصحية الجسدية والنفسية للمرضى في أغلب ولايات الجمهورية.. الخ،
كانت كلها من المواضيع المقموعة. فالمعطيات الإحصائية القابلة للضبط الكمي تنسف
ادعاءات منظومة الاستعمار الداخلي وتفضح زيف ادعاءاتها الوطنية.
بعد الثورة، عرف التونسيون موجة من التفاؤل ومن الثقة في المستقبل وفي النخب المشرفة على مسار الانتقال الديمقراطي. ولكنّ موجة التفاؤل سرعان ما انحسرت بعد أن رأى المواطنون -خاصة الشباب منهم- اتساع الشقّة بين الشعارات/ الوعود وبين المنجز أو المحصول
بعد
الثورة، عرف التونسيون موجة من التفاؤل ومن الثقة في المستقبل وفي النخب المشرفة
على مسار الانتقال الديمقراطي. ولكنّ موجة التفاؤل سرعان ما انحسرت بعد أن رأى
المواطنون -خاصة
الشباب منهم- اتساع الشقّة بين الشعارات/ الوعود وبين المنجز أو
المحصول. ويكفينا هنا أن نستحضر المسح الميداني الذي أجرته مؤسسة فريدريش إيبرت ما
بين سنتي 2016 و2017 والمتعلق بواقع الشباب العربي وتصوراتهم. وقد جاءت النتائج (في مرحلة التوافق بين
نداء تونس والنهضة، ومرحلة تغول النقابات الأمنية والمدنية، وتسيّد المال المشبوه
وهيمنته على الإعلام والثقافة.. الخ) لتُظهر أن 48 في المائة من الشبان في تونس يرغبون في الهجرة، مقابل 21 في المائة من الشباب اليمني، و17 في المائة من شباب فلسطين، و22 في المائة من الشباب المصري، 26 في المائة من الشباب اللبناني.
إننا
أمام حقيقة مرعبة كيفما قرأناها، فالشباب التونسي الذي أشعل ثورات الربيع العربي
قد أصبح أكثر الشباب العربي تشاؤما من إمكانية تغيير واقع البلاد أو تغيير واقعه
هو في بلاده.
وإذا
ما تذكرنا أن هذا المسح الميداني قد أُجريَ قبل وباء كوفيد وما خلّفه من آثار كارثية
على سوق التشغيل وعلى الصحة الجسدية والنفسية للناس، وتذكرنا أيضا أن المسح قد تمّ
قبل إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 وما لازمها من انهيار اقتصادي وانقسام اجتماعي عميق بين التونسيين، فإن نسبة
الراغبين في الهجرة من الشباب الآن- وهنا ستكون في مستويات مرعبة.
ولكنّ
هذا الواقع لا يمثل إشكالا بالنسبة إلى "تصحيح المسار" ولا حتى بالنسبة
لمعارضته، فوضعية الشباب أو غيرهم بالنسبة للرئيس- المؤسس هي نتيجة خيارات لا وطنية
سابقة لا تتحمل منظومة الحكم الحالية مسؤوليتها، أما المعارضة فإنها تركّز على
انهيار
مؤشرات الاقتصاد التونسي الحالية وتأثيراتها الكارثية على الصحة النفسية
للمواطن دون أن تربطها بمقدماتها التي تضرب بجذورها في فلسفة الدولة- الأمة وفي السياسات
الجهوية- الريعية لما يسمى بالدولة الوطنية، تلك السياسات التي أنتجت التطابق بين خارطة
التوزيع اللا متكافئ للسلطة والثروة وبين الخارطة الصحية وغيرها من الخرائط
المرتبطة بالخدمات الاجتماعية والثقافية والتعليمية والترفيهية وغيرها.
إصرار الرئيس قيس سعيد على الخطاب الصدامي وعلى مفردات الحرب الوجودية مع مختلف الفاعلين -وغياب أي بديل مقبول شعبيا من جهة المعارضة- كل ذلك لن يساعد في تحسين الصحة الجسدية والنفسية للمواطنين وتقليل عدد المصابين بالاكتئاب والراغبين في الهجرة الشرعية وغير الشرعية، كما لن يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي أو تغيير موقف مؤسسات التصنيف السيادي من "التأسيس الثوري الجديد" الذي حوّل تونس إلى ملف اقتصادي وحقوقي بين أيدي القوى الإقليمية والدولية
ختاما،
فإن الصراعات الهوياتية البائسة والخيارات السلطوية الفاشلة في فترتي التأسيس
والتوافق قد دفعت بجزء معتبر من التونسيين بعد الثورة إلى فقدان الثقة
بالديمقراطية التمثيلية وبأجسامها الوسيطة. بغياب "مشروعية الإنجاز"
وعدم شعور المواطنين بأن مصلحتهم تكمن في النظام الديمقراطي، نجحت النخب المهيمنة
على مسار الانتقال الديمقراطي في تحويل الديمقراطية تدريجيا إلى إحدى الكلمات
"سيئة السمعة" عند عموم المواطنين.
ولذلك
لم يجد الرئيس قيس سعيد صعوبة كبيرة في تدمير مؤسسات الانتقال الديمقراطي ومخرجاته
الهشة. ولكنّ "السعادة الخام" التي يعد بها الرئيس أو يبشّر بها، تبدو
مطلبا صعبا، حتى لو فصلنا بينها وبين "الدخل الخام". فتراجع تونس في
مؤشر السعادة العالمي ليس مردودا فقط لتراجع "الدخل الخام" أو ارتفاع
نسبة التضخم، بل هو مرتبط بأمور معنوية أو قيمية لا يمكن تكميمها (أي معاملتها
بصورة إحصائية كمية) كحرية اتخاذ قرارات الحياة والسخاء والتضامن.. الخ.
ولا
شك عندنا في أن إصرار الرئيس قيس سعيد على الخطاب الصدامي وعلى مفردات الحرب
الوجودية مع مختلف الفاعلين -وغياب أي بديل مقبول شعبيا من جهة المعارضة- كل ذلك لن
يساعد في تحسين الصحة الجسدية والنفسية للمواطنين وتقليل عدد المصابين بالاكتئاب والراغبين
في الهجرة الشرعية وغير الشرعية، كما لن يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي أو تغيير
موقف مؤسسات التصنيف السيادي من "التأسيس الثوري الجديد" الذي حوّل تونس
إلى ملف اقتصادي وحقوقي بين أيدي القوى الإقليمية والدولية، بعد أن أضعف موقفها
التفاوضي الذي كان قبل 25 تموز/ يوليو مرتبطا أساسا بمكانتها المحورية وقيمتها
الاعتبارية في ثورات "الربيع العربي".
twitter.com/adel_arabi21