كانت الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي " إيمانويل ماكرون" لأربع
دول أفريقية مستهل آذار/ مارس 2023 كافية للحكم على أن الانسحاب النهائي لفرنسا من
القارة السمراء قادم ولا مندوحة منه، فقد بدأت تتراكم بوادره منذ خطبة الرئيس
"فرانسوا ميتران" الشهيرة في القمة 16 لرؤساء الدول الأفريقية في مدينة "لابول"
(la baule) عام 1990،
التي عوض أن يكشف الرئيس الاشتراكي عن الأوجه الحقيقية للاستعمار وسلبياته، أمعن في
نزعته الأبوية وهو يخاطب رؤساء
أفريقيا، ويوزع عليهم نصائحه، ويفرض عليهم شروطه في
قضايا تدخل في قلب وعمق السيادة الوطنية لبلدانهم.
واللافت للانتباه أن على الرغم من التغيرات الجوهرية التي مسّت بنية النظام
الدولي والعلاقات البينية لوحدتنه، والتي كرست مبادئ التحرر والاستقلال والتعامل
بالمثل، وأقرت حقوق الدول في السيادة وتقرير المصير والتمتع بخيراتها الطبيعية بحرية
ودون ضغط أو تدخل، فقد ظلت علاقات
فرنسا بأفريقيا محكومة بثوابت تعود لجذورها الاستعمارية،
وسياساتها التوسعية، على الرغم من تعاقب كل أطياف اللون السياسي على مؤسستها الرئاسية
وحكوماتها المتتالية.
ظلت علاقات فرنسا بأفريقيا محكومة بثوابت تعود لجذورها الاستعمارية، وسياساتها التوسعية، على الرغم من تعاقب كل أطياف اللون السياسي على مؤسستها الرئاسية وحكوماتها المتتالية
يقول المثل الشائع "ليس في القنافذ أملس"، فالاستعمار يبقى
استعمارا بغض النظر عن جنسية مهندسيه وقادته، ومع ذلك ثمة مجموعة عناصر ميزت
استعمارا عن آخر، كما هو حال النموذجين الاستعماريين الفرنسي والبريطاني.. فقد ظلت
التجربة الفرنسية في مجال الاحتلال والاستعمار، محكومة بعدد من القيم أطّرت سلوكها
وممارساتها، بل حتى حين خرجت أو أخرجت منها، احتفظت بما اعتبرته "حقوقا تاريخية"،
ومكاسب غير قابلة للتخلي والزوال.
فحين نقارن، على سبيل المثال، بين "رابطة الدول المستقلة الكومنولث"
(commnowealth) التي تضم
56 دولة، ومجموعة "فرنسا أفريقيا" (Franceafrique) المكونة بعمومها
من البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية، التي تربطها علاقات تقليدية مع فرنسا بسبب
التواجد الاستعماري على أراضيها، نلاحظ بجلاء كيف أن مقابل سياسات التوازن، والتعاون
والربح المتبادلين، واحترام مظاهر السيادة والاستقلال الوطني، وروح الشراكة
واقتسام التقدم والثراء التي تنهجها بريطانيا في علاقاتها بدول الرابطة، هناك نزوع
متواتر ومستمر إلى التعالي والعجرفة، والنظر بقدر كبير من الدنيوية تجاه الدول الأفريقية،
واستغلال غير منقطع لثرواتها الطبيعية وخيراتها الوطنية، وجنوح لا متناهي نحو تكريس
الروح الاستعمارية لفرنسا في القارة الأفريقية، وما خفي من هذه الممارسات غير
المقبولة أكبر وأعظم.
لم يكن خروجهم من عموم البلدان الأفريقية نهائيا وبلا عودة، بل بالعكس، قيدوا اتفاقيات استقلال الكثير من الدول الأفريقية ببنود مجحفة، ضمنت لهم امتيازات مالية وتجارية لعقود وصلت في بعض مستعمراتها السابقة قرابة مائة سنة، ناهيك عن الامتيازات المالية والعسكرية والترابية، وإبقاء أيادي الفرنسيين طولى على المعادن النفيسة ومصادر الثروة في البلدان الأفريقية
لا يجد المتابع لتطور العلاقات الفرنسية الأفريقية كبير عناء في إثبات، بما
لا يدع مجالا للشك، وجود نزعة استعمارية في تفكير القادة الفرنسيين والثقافة
السياسية الناظمة لمؤسساتهم العامة. فمن جهة، لم يكن خروجهم من عموم البلدان الأفريقية
نهائيا وبلا عودة، بل بالعكس، قيدوا اتفاقيات استقلال الكثير من الدول الأفريقية ببنود
مجحفة، ضمنت لهم امتيازات مالية وتجارية لعقود وصلت في بعض مستعمراتها السابقة قرابة
مائة سنة، ناهيك عن الامتيازات المالية والعسكرية والترابية، وإبقاء أيادي
الفرنسيين طولى على المعادن النفيسة ومصادر الثروة في البلدان الأفريقية.
فهكذا، نستطيع ملامسة وجود خيط رابط بين الولايات المتعاقبة لرؤساء فرنسا
خلال الجمهورية الخامسة، مفاده تكريس النزعة الاستعمارية لفرنسا. حصل هذا مع ولايتي
الرئيس ميتران، كما أشرنا سابقا، وتكرر مع الرئيس "نيقولا ساركوزي" (N. sarkozy)، في خطابه
الشهير في العاصمة السنغالية داكار عام 2007، حين صرح بدون خجل بأن "الإنسان الأفريقي
لم يدخل بما يكفي دائرة التاريخ"، مما يعني أنه ما زال في مرحلة ما قبل
التاريخ، مع كل ما يؤسس ويترتب عن هذا الحكم من نتائج ونعوت تمس كرامة أفريقيا،
وتحط من الاحترام المطلوب لأبنائها. ثم إن أدبيات وثائق تاريخية كثيرة تؤكد
الأدوار التي لعبها الحضور الفرنسي في العديد من الأزمات التي مزقت أفريقيا، وجلبت
ويلات وخسائر بشرية ومادية لا حصر لها للمجتمعات الأفريقية..
التقهقر المستمر لصورة فرنسا في البلدان الأفريقية، بسبب روح الاستعمارية المتأصلة في ثقافتها الجماعية، والنزعة المتعالية لرؤسائها وسوء تعاملهم مع أفريقيا والأفارقة
فحتى وقت غير بعيد كانت فرنسا تُسقط رؤساء أفارقة، وتنصبهم بمشيئة
إراداتها، ودون احترام حقوق الأفارقة في تقرير مصيرهم، بل كانت مسؤولة في حالات
كثيرة عن نشوب حروب أهلية شردت آلاف المواطنين وهجّرتهم من ديارهم، وأعادت رسم
الحدود والكيانات دون رحمة.
كان من الطبيعي أن تخسر فرنسا كل شيء، وهي منذ سنوات تنسحب مضطرة وبشكل غير
مشرف من البلدان الأفريقية، حتى التي كانت إلى وقت قريب أكثر خضوعا وولاء لنفوذها وهيمنتها.
فكما أسلفنا، غادر الرئيس "ماكرون" أربع دول أفريقية منكسرا، خلال زيارته
الأخيرة مستهل هذا الشهر، بعدما تعرض لنقد لاذع واعتراض كبير في أعوام قليلة سابقة
حين سعى إلى إعطاء "دروس في الأخلاق والنزاهة" لأفريقيا وأبنائها، ونسي
أنه أمام قارة أفريقية تروم النهوض من كبوتها، وتتوق لاسترداد سيادتها واستقلالها
الوطني، ويسعى شبابُها إلى التمرد على فرنسا والخروج من تحت عباءتها. وحتى حين
طلبت الخارجية الفرنسية من 42 سفيرا من سفرائها في أفريقيا تنويرها بحال الوجود
الفرنسي في أفريقيا، كان تقريرهم مؤلما لفرنسا، حين شددوا بالإجماع على التقهقر المستمر
لصورة فرنسا في البلدان الأفريقية، بسبب روح الاستعمارية المتأصلة في ثقافتها الجماعية،
والنزعة المتعالية لرؤسائها وسوء تعاملهم مع أفريقيا والأفارقة..
ذاك هو اتجاه التاريخ ونداؤه، ولا مخرج لفرنسا سوى إنهاء وجودها في القارة
السمراء، بحد أدنى من "سلام الشجعان"، على حد تعبير مؤسس جمهوريتها
الخامسة، وربما آخر الوجوه السياسية الفرنسية، الجنرال "شارل ديغول".