كتاب عربي 21

اختطاف الكنيسة والقابلية للاختطاف.. مفاهيم ملتبسة (39)

سيف الدين عبد الفتاح
لعب البابا تواضروس دورا في حشد الدعم للسيسي- جيتي
لعب البابا تواضروس دورا في حشد الدعم للسيسي- جيتي
من اليوم الأول وقد برز لنا مدى حاجة نظام الثالث من تموز/ يوليو إلى الظهير الديني سواء من رجال المؤسسات الإسلامية الرسمية أو من الكنيسة، وحينها والتطورات اللاحقة -أيضا- كشفت لنا من جاء مجبراً أو على أقل تقدير كانت لديه الجرأة لمراجعة نفسه ومؤاخذتها، وبين من وجدها فرصة سانحة، وتمسك بها وعمل لها وبذل كل ما يمكن حتى يحافظ على مكتسباتها، بما في ذلك تنصله من تصريحات قديمة له والقول بعكسها رغم فداحة ذلك الحادث الذي جاءت بشأنه تلك التصريحات..

نعم أتحدث عما يعرف بـ"حادث ماسبيرو" الذي وقع خلال إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية في مصر في تشرين الأول/ أكتوبر 2011 وراح ضحيته 28 مسيحياً، وكيف ناقض البابا تواضروس تصريحاته بشأنها. فبعد أن كان يطالب بالتحقيق فيها وأنه لا يعرف من الذي يقف خلفها ويشبهها بمذابح الأرمن، بل إنه في تصريح له في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2014 عندما قال له محاوره إن شاهد مقبرة الضحايا يقول إنهم ضحايا الجيش المصري، قال البابا تواضروس إن من كتب على ذلك الشاهد حينها "وصّف الحادث ساعتها، وده اللي حصل"، إلا أنه وعقب هذه التصريحات بوقت قليل (في 4 كانون الثاني/ يناير 2015م)، عاد وأكد في تصريحات تلفزيونية أن جماعة الإخوان هي المسؤولة عن الحادث بقوله: "حادث ماسبيرو كان خدعة من الإخوان للشباب المسيحي، استدرجوهم لمواجهة الجيش ثم تركوهم".. شماعة النظام اتخذتها الكنيسة ذريعة لتبرئة العسكر.

مثل هذه التصريحات تكشف عن قابلية الكنيسة للاختطاف قبل أن نقول إن أجهزة نظام الثالث من تموز/ يوليو اختطفت الكنيسة. فبابا الكنيسة هو من يسعى جاهدا لأن يضع الكنيسة في خدمة هذا النظام، وهذا الأمر لا يخفى على أحد والوقائع عليه عديدة ومتكررة

مثل هذه التصريحات تكشف عن قابلية الكنيسة للاختطاف قبل أن نقول إن أجهزة نظام الثالث من تموز/ يوليو اختطفت الكنيسة. فبابا الكنيسة هو من يسعى جاهدا لأن يضع الكنيسة في خدمة هذا النظام، وهذا الأمر لا يخفى على أحد والوقائع عليه عديدة ومتكررة.

ولعل ما كانت تقوم به الكنيسة المصرية وكنائس المهجر التابعة لها من حشد وتعبئة للمسيحيين في الخارج للمشاركة في استقبال رئيس النظام في سفرياته إلى أمريكا والدول الأوروبية يؤكد هذا الدور المشبوه الذي تلعبه ولعبته الكنيسة في دعم هذا النظام ومساندته. بل الأمر أخطر من ذلك بكثير، فموقف الكنيسة من ثورة يناير كان واضحاً، فقد انحازت للدولة بصورة مطلقة، وكان موقفها في دعم الدولة أقوى من موقف وزارة الداخلية وغيرها من مؤسسات الدولة نفسها، حتى أن الكثير من الكتاب حاولوا توصيف موقفها وكانت العبارة البليغة لأحد أبرز المهتمين بهذا الملف: "بينما تتوالى التحديات في مواجهة الثورة وأهدافها، لا يزال الصمت يكتنف الكنيسة القبطية، وكأن الأمر لا يعنيها. فيبدو أن الكنيسة قد اتخذت موقع المشاهد في انتظار انتهاء المعركة وتنصيب القيصر الجديد، حتى تدير علاقاتها معه كما كانت تفعل في السابق". وقد انتظرت حتى خرجت علينا بشعار "قول نَعم تزيد النِعم"، ولم تجد غضاضة في أن تتحالف مع السلفيين في الدعوة لانتخاب رئيس النظام.

هكذا هي الكنيسة ورجالاتها في مصر يعملون في خدمة النظام ويقدمون المبررات التي يرونها صحيحة حتى ولو كانت متناقضة، فاللجنة الوطنية للعدالة والمساواة التي كنت منسقاً لها إبان رئاسة الدكتور عصام شرف لمجلس الوزراء وضعتْ مقترحاً لقانون دور العبادة، وطلبنا من بعض المسئولين في الكنيسة تزويدنا بأماكن دور العبادة المسيحية التي تحتاج إلى ترخيص فرفضوا ذلك بدعاوى واهية ولكنهم أحالونا إلى جهات أمنية أخرى لا نراها مختصة بذلك الأمر، في حين نراهم الآن يحتفلون ويحتفون بهذا القانون وأنه من منتجات وبنات أفكار نظام الثالث من تموز/ يوليو الذي حماهم من الإسلاميين الذين كانوا يريدون قتلهم على قارعة الطريق، مع أن الحوادث الطائفية التي كانت تقع إبان فترة المخلوع مبارك كانت مشهودة، بل إن هناك حديثا متواترا بأن من يقف وراء هذه الحوادث أحد الأجهزة الرسمية للدولة في ذلك الحين.

لعل حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية قبيل الثورة مثال على هذه السياسات والسلوكيات، وهو ما يؤكد على أن مشروع الجماعة الوطنية في خطر، وأن وحدة وتماسك الجماعة الوطنية لم يعد يشغل بال أي من المؤسسات الرسمية أو المجتمعية، فمشروعها الآن هو الحاكم الفرد، وكيفية مراضاته، وتنفيذ أحلامه قبل سياساته، وأوامره قبل خططه. هكذا تفعل الكنيسة مثلها مثل أي مؤسسة تابعة لأي جهاز أمني

ولعل حادث كنيسة القديسين في الإسكندرية قبيل الثورة مثال على هذه السياسات والسلوكيات، وهو ما يؤكد على أن مشروع الجماعة الوطنية في خطر، وأن وحدة وتماسك الجماعة الوطنية لم يعد يشغل بال أي من المؤسسات الرسمية أو المجتمعية، فمشروعها الآن هو الحاكم الفرد، وكيفية مراضاته، وتنفيذ أحلامه قبل سياساته، وأوامره قبل خططه. هكذا تفعل الكنيسة مثلها مثل أي مؤسسة تابعة لأي جهاز أمني في نظام الثالث من تموز/ يوليو.

إن التحذير من ضياع الجماعة الوطنية ومؤسساتها المجتمعية أمر من الأهمية بمكان، خاصة أن مثل هذه المؤسسات هي من تقود المجتمع وتحميه، وأن انهيارها أمام السلطة لا يعني انهيارها الفردي ولكنها بما لديها من قوة مجتمعية فهي تؤثر على أطياف المجتمع المرتبطة بها، خاصة أن الكنيسة في مصر على سبيل المثال تعتبر نفسها المتحدث الرسمي باسم المسيحيين وشعب الأقباط أو الكنيسة كما تراه تلك المؤسسة، فهي تمثلهم وتتحدث بالنيابة عنهم وتعاقب من يخرج عن طوعها؛ كان في السابق الديني وبات الآن السياسي، في ظل أن بابا الكنيسة الحالي لا يتحدث إلا في السياسة. وخطورة ذلك أنه يضرب مشروع الجماعة الوطنية في القلب باعتباره من أهم المشروعات الاستراتيجية في بناء الوطن، الذي كان على قمة أولويات الجماعة الثقافية المصرية، التي أكدت أن هذه القضية لا يجوز بأي حال من الأحوال التلاعب بها، أو جعلها موضع مقايضات أو مساومات، أو دخولها على خط التسييس من جانب السلطات الحاكمة أو السلطات الأمنية.

هذا المشروع الذي حفر طريقه في الذاكرة الحضارية للمصريين في إطار جامع بين المسلمين والمسيحيين تعرض لخطر دفين بتخلي مؤسساته ومن بينها الكنيسة عن دورها المجتمعي والوطني، ارتضاء منها أن تقوم بدور داعم لنظام الثالث من تموز/ يوليو ومساند له على المستويين الداخلي والخارجي.

كان يمكن للكنيسة أن تقوم بدورها أمام أبنائها دون أن تضر بالنسيج الوطني المصري ودون أن تتخلى عن مكانتها البعيدة عن السلطة، كان لها أن تحافظ على مساحة بينها وبين القوى السياسية وتقف إلى جانب المواطن وكرامته وطموحاته وأحلامه، في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أنها في سبيل دعمها ومساندتها لنظام الثالث من تموز/ يوليو لم تقف بقدميها على مشروع الجماعة الوطنية فقط، بل أخذت في وجهها أيضا من تزعم أنها تحافظ على مصالحهم وتحميهم

كان يمكن للكنيسة أن تقوم بدورها أمام أبنائها دون أن تضر بالنسيج الوطني المصري ودون أن تتخلى عن مكانتها البعيدة عن السلطة، كان لها أن تحافظ على مساحة بينها وبين القوى السياسية وتقف إلى جانب المواطن وكرامته وطموحاته وأحلامه، في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أنها في سبيل دعمها ومساندتها لنظام الثالث من تموز/ يوليو لم تقف بقدميها على مشروع الجماعة الوطنية فقط، بل أخذت في وجهها أيضا من تزعم أنها تحافظ على مصالحهم وتحميهم. ففي العديد من المواقف وجدنا أن بابا الكنيسة يشيح بوجهه إلى الجانب الآخر بعيداً عمن دهسهم النظام، ولم يعد يلقي بالاً إلا باتهام الإخوان بكل نقيصة ويسألهم عن كل مصيبة.

ومن هنا كان تحذيرنا من أن الجماعة الوطنية في خطر ومشروع العيش المشترك صار على المحك، خاصة من مواقف بعض الأقباط ممن حملوا هذا المشروع ضمن حركة التيار الأساسي للأمة الذي يحفظ نسيج هذه الأمة ويحمي تماسك لحمتها الوطنية، الذين وقفوا صامتين حيال انبطاح الكنيسة لنظام الثالث من تموز/ يوليو في مساومة رخيصة.

نقول ذلك في حق الكنيسة كما نؤكده حيال مؤسسات دينية إسلامية رسمية؛ إن مواقف الحياد والصمت ساعد منظومة الاستبداد على أن تعيد الملف القبطي ليقع مرة أخرى في حوزة الأجهزة الأمنية، وظلت ممارسات الكنيسة تؤكد ذات الفكرة للأسف الشديد؛ لتنجرف جملة إلى ناحية منظومة الاستبداد لتأمين معنى الأقلية الخطير الذي يفت في عضد الأمة وجماعتها الوطنية، فيما يؤكد مشروع الجماعة الوطنية معاني النسيج الاجتماعي للأمة وتماسكها، يقينا منها بأن هذا المكون الاجتماعي المتمثل في الأقباط يجد حمايته وأمانه وتأمينه في المجتمع لا في الحماية المتوهمة من سلطة مستبدة.. نؤكد على كل ذلك ليتبين للكافة مدى خطورة سياسات الكنيسة وقابلياتها للاختطاف من نظام الطاغية.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)