عندما سألت المستشار سعيد العشماوي، عن السر وراء حرص
الرئيس مبارك على أن يجعل من ذات المملكة العربية
السعودية، مصونة لا تُمس، قال:
لقد سألته هذا السؤال، وكانت إجابته: إنهم لا يقصرون معنا في شيء، في حين أننا لو
طلبنا من الولايات المتحدة الأمريكية ولو مئة دولار، فسوف يعرضون الطلب على الكونجرس
ليناقشه، ويجرسنا، وقد لا يوافق!
كان سؤالي هذا على خلفية أزمة سلسلة من المقالات كتبها
الدكتور محمد عمارة ضد المستشار العشماوي في جريدة "الشرق الأوسط"
السعودية، وقد اتصل الأخير بالرئيس ليضعه في الصورة، وأنه سيرد على هذه الهجمة
السعودية ضده، لكن مبارك طلب منه الانتظار، وأنه سيتصرف. وفي اليوم التالي كان
"الناشر" للصحيفة السعودية يطلب مقابلة العشماوي، وقد حضر إلى بيته
للاعتذار. ولم ينس أن يخبرني أنه صعد كما صعدت، وكنت في ضجر لأن المصعد معطل مما
اضطرني للصعود للدور للسادس. ونقل له "الناشر" تحية العاهل السعودي، وأعلن
أسفه لأن النشر كان بينما هو في الخارج، وتوقف نشر الحلقات التي طبعت بعد ذلك في
كتاب!
كان سعيد العشماوي يدرك حساسية الكتابة ضد صحيفة سعودية،
وفي اعتقادي لو كتب فلن يجد صحيفة في
مصر تجرؤ على النشر، ولن يكون أمامه إلا أن
ينشر ما كتب في الصحافة الأجنبية، وقد كان من كتّابها، ولن يؤدي هذا الغرض من الرد.
ولحساسية الموقف فقد اتصل بالرئيس، لأنه لم يكن يوافق أبداً على الهجوم على السعودية،
ولم يطلق إعلامه عليها عندما نُشر تحقيق في مجلة "المجلة" السعودية،
التي تصدر من نفس الدار التي تصدر "الشرق الأوسط"، عن نجليه علاء وجمال،
لم يطلق إعلامه لينتقم، وإنما ترك الأمر للقضاء. ومن جانبها قررت الصحيفة أن تجعل
من زيت المصريين في دقيقهم، فدفعت بأن كاتب التحقيق هو الصحفي المصري سيد عبد
العاطي (توفي اليوم رحمه الله)، ومن أجازته للنشر الصحفية المصرية فوزية سلامة
المقيمة في لندن. وفي النهاية تمت تسوية القضية، دون أي تجاوز من الصحافة المصرية
ضد المملكة صاحبة المجلة!
تدويل المقدسات:
وعندما صدرت في القاهرة صحيفة "مصر الفتاة"
التي تبنت دعوة القذافي بتدويل المقدسات، كان تدخل الرئاسة بإحداث انشقاق داخل
الحزب الذي يصدرها، ثم انتهى الأمر بإيقافها عن الصدور، لكنه حرص على ألا يبدو من
حيث الشكل قد أقدم على هذا التنازل مجاناً، فكان شرطه إغلاق جريدة
"الصباحية" في المقابل، وهي صحيفة تصدر من نفس الدار "الشركة
السعودية للأبحاث والتسويق"، لأنها توسعت في نشر قضية "فتاة
العتبة"، وهي حادثة كانت حديث
الإعلام والرأي العام في مصر، حيث تعرضت فتاة
للتحرش الخشن في حافلة للنقل العام بمحطة العتبة بوسط القاهرة، ومع النشر الموسع
في مصر، إلا أن هناك حساسية من نشر مثل هذه القضايا في الخارج!
عندما يتطور الأمر الآن فنشاهد هجوماً من جانب عدد من إعلاميي السلطة في مصر في توقيت واحد ضد السعودية، فلا بد من أن يكون سؤالنا: ماذا هناك؟!
ويعرف الصحفيون القدماء، أن مبارك وإن قدم منحة للصحفيين
بمناسبة مؤتمرهم العام الرابع (لأسباب يطول شرحها)، تمثلت في إلغاء عقوبة الحبس
الاحتياطي إلا في جريمتين؛ إهانة رئيس الجمهورية وإهانة ممثل دولة أجنبية، فلم يكن
يغيب عن فطنتهم في نضالهم ضد هذا اللون من العقوبات، أن إصرار مبارك على استمرار
العقوبة على من سواه، من أجل السعودية فقط. ولهذا قال مكرم محمد أحمد لا بد من أن
يكون هناك اتفاق شرف بين الصحفيين والرئاسة على ألا ينتقدوا المملكة غواية لها
لإلغاء هذا النص. وفي أواخر عهده وإن كانت الأصوات ارتفعت بالهجوم على مبارك نفسه،
إلا أنها لم تقترب من السعودية، ولأسباب تُكتب فيها كتب!
وعندما يتطور الأمر الآن فنشاهد هجوماً من جانب عدد من إعلاميي
السلطة في مصر في توقيت واحد ضد السعودية، فلا بد من أن يكون سؤالنا: ماذا هناك؟!
ثلاثة رابعهم بدر:
يقولون ثلاثة رابعهم محمود بدر؛ قل الله أعلم بعدتهم، فلست
مطلعاً على تفاصيل ما يكتبه القوم.
فالثلاثة انطلقوا من موضوع واحد، بينما عضو البرلمان بدر
انطلق من موضوع مختلف، وإذا لم تخضع المملكة بالقول، وبالأحرى بالفعل، فسوف يتطور
الأمر إلى الهجوم من منطلقات أخرى!
الثلاثة هم محمد الباز، ومحمد عبد الرحمن، ونشأت الديهي،
والمعلن هو الهجوم على عمرو أديب، لكن ليس كونه إعلامياً صاحب رأي مختلف، ولكن
لأنه عميل سعودي، ويخدم المشروع السعودي، وأجندته سعودية، ويعمل لصالح كفيله
السعودي، و"خدام" سعودي، ولماذا لا يذهب ليعيش في السعودية!
وهكذا صارت مفردات "سعودي"،
و"السعودي"، و"السعودية" جزءاً من جملة لا تكتمل إلا بأي منها،
وفي نفس اليوم الذي كان فيه الباز واضحاً وصريحاً في توجيه اتهامه، فإن "عبد
الرحمن" تحدث بشكل مستتر، عن المصريين الذين يعملون لدى جهاز بروباجندا تابع
لدولة صديقة، وإمعاناً في التوضيح فإنه يضيف: "إنهم يعملون خَدَما لجهاز
بروباجندا ينفذ أجندة الدولة الصديقة وإن تضاربت مع أجندة مصر"، ليذكرنا
بمقولة: كان يؤدي العمرة في إحدى الدول العربية!
لا يمكن القول إن المستهدف هو عمرو أديب لشخصه، إذ لاقتصر الأمر عليه، وإذا كان الهجوم رفضا لخطابه هو لأنه يقوم على تخويف الناس من المستقبل، فإن هناك من يقولون إنه يفعل هذا من أجل أن يستسلم الناس لقدرهم المحتوم والظروف الأكثر سوءاً
لا يحتاج المرء إلى فراسة ليقف على هذه "الدولة
الصديقة"، لكن اللافت هنا في هذا التصور، أن مشروع الدولة الصديقة يتضارب مع
أجندة مصر، ويبدو في وضوح الباز أن المشروع السعودي، والأجندة السعودية، ضد مصر
هذه المرة!
ولا يمكن القول إن المستهدف هو عمرو أديب لشخصه، إذ
لاقتصر الأمر عليه، وإذا كان الهجوم رفضا لخطابه هو لأنه يقوم على تخويف الناس من
المستقبل، فإن هناك من يقولون إنه يفعل هذا من أجل أن يستسلم الناس لقدرهم المحتوم
والظروف الأكثر سوءاً. وهو كلام ليس منكراً على مستوى الرئاسة التي تعترف بأن
المصريين يعيشون في قلق، وتبرر الأزمة الحالية بأزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية،
وإن كانت ثقتها في الله كبيرة. فلا حلول، ولا وعد بحل هذه الأزمات، إلا أن الله لن
يضيعهم!
وهذا فضلا عن أن خطاب عمرو أديب ليس جديداً، فمنذ العام
الماضي وهو يكرره، ويعلن أنه خائف، وأنه يضع يده على قلبه فزعاً من الغد، وأن
الأوضاع تنتقل من سيئ إلى أسوأ. وهل يحتاج المصريون إلى من يقول لهم هذا ليتأكدوا
منه؟ ولا يجوز لرفض هذا الخطاب أن يصل لمستوى اتهامه بأنه ينفذ الأجندة السعودية،
باعتبارها تتعارض مع الأجندة المصرية، فماذا هناك؟!
منافسة مصر:
أما رابعهم، فليس من إعلاميي المرحلة، ولكنه من النواب
الذين تم اختيارهم على "الفرازة"، وتم الإبقاء عليه ضمن قوائم أهل
الحكم، وقد كان نائباً في البرلمان السابق، وها هو يواصل مشواره، بقرار من السلطة
وليس بإرادة الشعب، وهو في توضيحه إنما يؤكد أن وراء الأكمة ما وراءها!
فهو يرى أن المملكة العربية السعودية في إقامتها الحفلات
الفنية إنما تنافس مصر، وعليه فهو يكتب أن أحداً لا يمكن أن ينافس بلاده؛ بلاد
الفن الحقيقي إلى أن يرث الله الأرض. وهو يرجع ما يحدث من منافسة إلى المال، وعليه
فهو يطلب:
"طيب ما تديني بترول أبيعه بـ100 مليار دولار
سنويا، وأنا أعمل حفلة أجيب أتخن نجوم العالم تتكرم..".
وهو إذ يعلن أنهم يتمنون الخير لغيرهم، "لكن لا
نقلل من نفسنا أبدا.."، ويختتم منشوره بقوله: "إحنا مش شوية يا جماعة.
احنا بنعمل من الفسيخ شربات، وأزمتنا مادية بالأساس".
نعتذر، فركاكة الأسلوب من المصدر، لكن لم يسأل المذكور
نفسه لماذا يعطونه بترولاً يبيعه؟ ومن الذي جعل مصر طرفاً في المنافسة هنا، ليكون الاتجاه
الفني للسعودية يستهدف سحب البساط من تحت أقدام مصر أو منافستها، فيعلن أن لا نقلل
من قدر أنفسنا، ثم يدخل في ذكر أسماء تثبت التفوق المصري، ويستبعد رشدي أباظة،
ونور الشريف، وأحمد زكي، ومحمود عبد العزيز، ويسرا، وإلهام شاهين، فيذهب ليضرب
مثلا بالجدد إلى أن وصل إلى "نسرين أمين"، فمن "نسرين أمين"؟!
لا أدري كيف لم ينتبه الفتى إلى أن من ذكرهم ممثلون، لا
يجوز استحضارهم في حفل غنائي، فالممثلون لا يغنون، ولا يحيون الحفلات الغنائية، بمن
في ذلك "نسرين أمين"، التي حشر اسمها حشراً لحاجة في نفس يعقوب قضاها، ولم
أتعرف عليها ولم يتعرف عليها غيري، فذهبت إلى جوجل لأكتشف أنها ممثلة جديدة مجهولة!
لقد وضع وزير المالية السعودي النقاط فوق الحروف على هامش مؤتمر دافوس بقوله: "غيرنا طريقة تقديمنا للمساعدات والمنح، فقد اعتدنا أن نعطي دون شروط، والآن لن نقدم منحا ومساعدات دون رؤية إصلاحات"!
ومن طلبه بترولا يبيعه، إلى قوله: أزمتنا مادية بالأساس،
يوشك المريب أن يقول: خذوني، فالأمر مرده هنا إلى المال، ولا نعرف كيف لا يجد القوم
غضاضة من ذكر أن أزمتهم مادية، فمن بدد أموالهم وما دفعه الخليج للسيسي لم يدفعه
لمصر على مدى النصف قرن الماضي، فهل هي أزمة السعودية أم أزمة مصر؟!
ليس عندي دفاع عن السعودية، غاية ما في الأمر أنني أحاول
أن أسبر أسباب هذا القصف "غير المتبادل"، وغير المسبوق. وقد انتقل هذا
القصف من أن يكون مدخله في البداية عمرو أديب، ثم أصبح مدخله حفلة غنائية نُظمت في
السعودية، وليست هي الأولى من نوعها، لنعيد السؤال: ماذا هناك؟!
لقد وضع وزير المالية السعودي النقاط فوق الحروف على
هامش مؤتمر دافوس بقوله: "غيرنا طريقة تقديمنا للمساعدات والمنح، فقد اعتدنا
أن نعطي دون شروط، والآن لن نقدم منحا ومساعدات دون رؤية إصلاحات"!
ورغم أن دولاً أخرى قد تكون معنية بذلك، مثل لبنان
مثلاً، لكن الإجماع يكاد يكون منعقداً بين الأطراف كافة أن المستهدف بالرسالة هم
أهل الحكم في القاهرة، وهي رسالة كاشفة وليست منشئة للخلاف، وإن جاءت بعد هجوم
الثلاثي، وقبل هجوم "رابعهم"!
عدم تسليم تيران وصنافير:
إن البعض يعتقد أن الأزمة مردها إلى أن القوم في مصر
ماطلوا في تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لكن في تقديري أن التوقف السعودي
عن تقديم المنح والمساعدات سابق على المماطلة (إن صحت) والتي لا ترتب أثراً
قانونياً، فالبرلمان والقضاء هما من قضى بحق السعودية في الجزيرتين، وبالتالي فإن
أي مماطلة لا معنى لها، ويمكن وقفها بإجراء قضائي دولي من أول جلسة. ولا تبدو
السعودية معنية أصلاً بالجزيرتين، فالتنازل خدمة للأمن القومي الإسرائيلي بالأساس!
الموضوع إذن مرتبط بعدم "رؤية إصلاحات"، الأمر الذي يجعل المنح والمساعدات تذهب أدراج الرياح، وليس الهدف الحصول على امتيازات بالاستثمارات، فطرق الحصول عليها سهلة، وتتضح الرؤية بتوقف تقديم المنح والمساعدات لمصر، في وقت أعلنت فيه المملكة عن الاستثمار في تركيا بـقيمة 3.3 مليارات دولار في إطار رؤية 2030
الموضوع إذن مرتبط بعدم "رؤية إصلاحات"، الأمر
الذي يجعل المنح والمساعدات تذهب أدراج الرياح، وليس الهدف الحصول على امتيازات
بالاستثمارات، فطرق الحصول عليها سهلة، وتتضح الرؤية بتوقف تقديم المنح والمساعدات
لمصر، في وقت أعلنت فيه المملكة عن الاستثمار في تركيا بـقيمة 3.3 مليارات دولار في
إطار رؤية 2030.
إنه خطأ قادت إليه أخطاء، فالأمر بدايته في الفلسفة غير
الواقعية في التعامل مع الخليجي، التي ليست مستندة إلى تراث التعامل من قريب،
ولكنها نتاج تصورات الدراما، مما قاد لتصور أن معهم أموالاً كالأرز، وأنهم بحاجة
إلى "ابن سوق" يصرفها، ولأنها أموال كالأرز فمن الضروري إنفاقها يمينا
ويساراً باعتبار أن نهر العطاء لن يتوقف، والتصور العام أنه يمكن بالقصف الإعلامي
حملهم على أن يعودوا إلينا مقصرين ومحلقين!
ليس فيهم مبارك، الذي أيقن أن حل مشاكله يكون بالتقارب
مع السعوديين، فلم يقتصر على اتصاله المباشر بهم، إنما أوكل لإبراهيم نافع مهمة
التعامل معهم، فما لا يمكنه القيام به يفوض فيه رئيس مؤسسة الأهرام، والذي عندما
وصل لسن الإحالة للتقاعد، وقرر أن يحل مكرم محمد أحمد محله فأرسله إلى هناك في
مهمة، فعاد متأففاً، فقال له شكراً. ليستمر نافع في موقعه بالمخالفة للقانون، وكأن
كفاءة الرئاسة بمؤسسة الأهرام لا تكتمل إلا بتولي هذا الجانب من علاقات الرئاسة
بالمملكة!
الأيام القادمة هي ما ستتحدد إن كانت المملكة ستواصل سياستها
الجديدة بتقديم
المساعدات والمنح، أم أنها ستغيرها بعد هذه الرسائل التي تضمنتها
مداخلة الأربعة!
فلننتظر!
twitter.com/selimazouz1