هناك حاجة لإعادة قراءة بعض المحطات الحاسمة في التاريخ السياسي
المعاصر للمغرب، وكيف تعامل معها حزب العدالة والتنمية بعد ولوجه الرسمي لحقل
العمل السياسي المؤسسساتي، وذلك من منظور نقدي..
هذا التمرين الاسترجاعي لا يخلو من مغامرة منهجية، ذلك أن الغرض من
هذه القراءة النقدية ليس هو التوثيق التاريخي للأحداث، التي تتميز بتعدد الروايات
بحسب الزوايا التي ينظر منها الفاعلون الذين عايشوا تلك الأحداث، بحيث نكون أمام
إعادة إنتاج السرديات الروائية التي طالما كررها قادة الحزب وهم يستعرضون تاريخ
نشأة الحزب ومساره التطوري في الحياة السياسية
المغربية بناء على النتائج
الانتخابية أساسا، ولكن غرضنا الأساسي هو بيان الملامح الأساسية للخط السياسي
للحزب الذي جرى نحته من خلال تفاعله مع الأحداث السياسية الكبرى والمؤثرة، مع
محاولة تقييمها تقييما نقديا صارما.
الفرضية الأساسية التي نحاول تأكيدها هي تذبذب الخط السياسي للحزب
وتأرجحه بين النزعة الإصلاحية البراغماتية التي تؤمن بالدور الوظيفي للحزب في ظل
ملكية تنفيذية مطلقة وبين النزعة الإصلاحية الديموقراطية التي تحاول إصلاح البنيات
السياسية للدولة في أفق ملكية برلمانية ديموقراطية، وهي النزعة التي انطفأت تقريبا
مع المشاركة السياسية للحزب في الحكومة لمدة ولايتن تشريعيتين كاملتين.
في ارتباك الموقف من المراجعة الدستورية لسنة 1996..
لقد دشن الحزب مساره السياسي المؤسساتي مع حكومة التناوب التوافقي
التي ترأسها عبد الرحمن اليوسفي، والتي جاءت في ظرفية سياسية واقتصادية صعبة، كانت
ميزتها الأساسية هو قرار الملك الراحل الحسن الثاني عرض المشاركة في الحكومة على
أحزاب المعارضة آنذاك ممثلة في أحزاب الكتلة الديمقراطية التي كانت تتشكل من حزب
الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة
العمل الديموقراطي الشعبي.
كان الحسن الثاني يستشعر أهمية توفير الشروط السياسية لانتقال سلس
للحكم، خصوصا بعدما أكدت التقارير الطبية أن وضعه الصحي ليس على ما يرام، تزامن
ذلك مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي المقلق الذي كانت تعيشه البلاد من جراء توالي
سنوات الجفاف، والتداعيات الاجتماعية لسياسة التقويم الهيكلي.
مما دفع بالحسن الثاني إلى تعميم النقاش حول التقرير الشهير للبنك الدولي حول المغرب وتبني خلاصاته التي
نبهت إلى المشاكل الحادة التي يمر منها الاقتصاد الوطني، واعتراف الحسن الثاني في
خطاب رسمي بأن المغرب مهدد بالسكتة القلبية.
كان الامتحان الأول الذي مر به حزب العدالة والتنمية هو تحديد الموقف
من التعديلات الدستورية التي أعلن عنها الملك الحسن الثاني في تموز (يوليو) سنة
1996 تمهيدا لمشاركة المعارضة في الحكومة.
إن الانقسام الإيديولوجي على أرضية الهوية لم يكن في صالح إنضاج شروط الانتقال الديمقراطي، بقدر ما زرع شرخا واسعا بين القوى السياسية عنوانه المركزي هو اختلاف المرجعيات الفكرية والإيديولوجية التي لم تنجح القوى السياسية في تأجيله إلى حين ترسيخ المسار الديمقراطي في البلاد، وبلورة الآليات المؤسساتية الكفيلة بحله عن طريق الحوار.
كان التقدير السياسي لقيادة حركة التوحيد والإصلاح آنذاك باعتبارها
الشريك الرئيسي لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية والمكون الأساسي داخله
(حزب العدالة والتنمية)، هو عدم التعبير عن أي موقف بالنظر إلى أن قيادة الحركة
كانت منشغلة بأولويات توحيد هياكل التنظيمين السابقين في إطار الحركة الموحدة
الجديدة (حركة التوحيد والإصلاح)، وبالنظر أيضا لأن الحزب كان لايزال في مرحلة
إعادة البناء.
غير أن الدكتور عبد الكريم الخطيب الأمين العام للحزب آنذاك كان له
رأي آخر، بحيث سارع إلى التعبير عن "عدم الجدوى من المشاركة في الاستفتاء
الدستوري المرتقب" مبررا موقفه باعتبار "التعديلات الجديدة لا تستجيب
لانتظارات الشعب المغربي في الديمقراطية ولا تعزز من مكانة الشريعة الإسلامية في
الدستور"، وقد تولت جريدة الصحوة التي كان يديرها المصطفى الرميد القيادي في
الحزب آنذاك نشر هذا الموقف، مرفوقا بافتتاحية ممهورة بتوقيعه تتبنى نفس الرأي.
هذا الموقف دفع عبد الإله بنكيران إلى الإعلان عن موقف مغاير على
صفحات جريدة "الراية" التي كان يديرها، وهو الدعوة إلى التصويت على
الدستور بـ "نعم"، مما أظهر حجم الاختلافات الموجودة داخل الحزب، مما
يعكس اختلاف الرؤى والتقديرات بين أعضائه المؤسسين منذ الأسابيع الأولى لنشأته،
ويؤكد فرضية التذبذب في الخط السياسي للحزب.
في الموقف من حكومة التناوب.. أو تغلب هواجس الإيديولوجيا والدفاع عن
الهوية على المطلب الديمقراطي
شارك الحزب لأول مرة في الانتخابات التشريعية لسنة 1997، حصل فيها
حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الرتبة الأولى فجرى تعيين عبد الرحمن
اليوسفي الكاتب الأول للحزب آنذاك وزيرا أولا، بينما حصل حزب الحركة الشعبية
الدستورية الديموقراطية (حزب العدالة والتنمية لاحقا) على تسعة مقاعد داخل مجلس
النواب.
عبد الرحمن اليوسفي
كانت تجربة التناوب لحظة سياسية بامتياز خلقت جوا من الحماس الشعبي
الواسع، وكان المواطن يتابع حكومة عبد الرحمن اليوسفي باعتبارها حكومة لإنقاذ
المغرب من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، ويتطلع إلى ممارسة سياسية مختلفة عن
التدبير التقنوقراطي الجامد الذي ساد طيلة أربعة عقود...
في هذا السياق، قررت قيادة حزب العدالة والتنمية أن تساند هذه
التجربة دون أن تكون جزءا منها، بعد الاعتذار عن تولي منصب حكومي واحد في
"حكومة التناوب".
كان هذا هو الموقف الرسمي للحزب، لكن ذلك لم يمنع عبد الإله بنكيران
من التعبير عن رأيه المخالف، حيث كان يرى بأن على الحزب أن يقبل بالمشاركة في
الحكومة ولو بمنصب واحد..
كان موقف المساندة النقدية موقفا جديدا على الساحة السياسية آنذاك،
أي مساندة التجربة عبر التصويت على البرنامج الحكومي الذي التزمت به الحكومة مع
الاحتفاظ بمسافة نقدية اتجاهها، لكن هذا الموقف لم يدم طويلا، فبعد مرور حوالي
سنتين قرر الحزب تبني موقف المعارضة الناصحة عوض المساندة النقدية، وذلك بعد إقدام
الحكومة على تبني بعض المشاريع التي اعتبرت مخالفة للمرجعية الإسلامية ومن ذلك
قانون السلفات الصغرى، الذي رأى فيه الحزب تعميما للربا على الفئات الفقيرة،
ومشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي اعتبره الحزب متضمنا لمقتضيات تتعارض
بشكل صريح مع الأحكام الشرعية المنظمة للأسرة. ومرة أخرى، سيعلن بنكيران عن موقفه
المتحفظ من قرار خروج الحزب للمعارضة..
استمر الحزب في معارضة حكومة عبد الرحمن اليوسفي معارضة شرسة على
أرضية الدفاع عن الهوية وعن المرجعية الإسلامية أساسا، وقاد الحزب حملة كبيرة
لإسقاط مشروع إدماج المرأة في التنمية الذي تقدم به سعيد السعدي (كاتب الدولة لدى
وزير التنمية الاجتماعية والتضامن والتشغيل والتكوين المهني مكلف بالأسرة والطفل)
سنة 2000، وقد أثار هذا المشروع آنذاك حفيظة جمهور المتدينين، مما خلق انقساما
مجتمعيا كبيرا بين "جبهة محافظة" يتزعمها حزب العدالة والتنمية انخرطت
فيها أيضا أحزاب سياسية أخرى إلى جانب خطباء الجمعة والوعاظ والمرشدين، وجبهة
"حداثية تقدمية" مناصرة لمشروع الوزير السعدي تمثلها أحزاب الاتحاد
الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية إلى جانب الجمعيات النسائية
المعروفة بتبنيها لمشروع مراجعة مدونة الأحوال الشخصية.
تسبب هذا الانقسام المجتمعي الكبير في توسيع الهوة بين حزب العدالة
والتنمية وبين الأحزاب المحسوبة على الحركة الوطنية ولا سيما منها الأحزاب
الاشتراكية، وظهر بأن بروز العوامل الإيديولوجية لن يساهم في خلق شروط التوافق
الضروري لتحقيق الانتقال الديموقراطي المطلوب.
كانت فرصة مناسبة للمؤسسة الملكية لتعزيز مكانتها التحكيمية، ولأول
مرة سيتم توظيف الصفة الدينية للملك في عهد الملك محمد السادس وسيتدخل باعتباره
أميرا للمؤمنين ليشكل لجنة ملكية ستسهر على تعديل مدونة الأحوال الشخصية (مدونة
الأسرة فيما بعد)، وسيعرضها الملك على البرلمان في خطاب رسمي سنة 2004 ميزته قولته
المشهورة" بصفتي أمير المؤمنين، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل
الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية".
كانت مدونة الأسرة محل إجماع بين القوى السياسية سواء منها القوى
"المحافظة" أو القوى "الحداثية"، وهو ما ساهم في تعزيز
المكانة الدينية والسياسية للملك ولمؤسسة إمارة المؤمنين التي وجدت فيها القوى
اليسارية ملاذا آمنا ضد الإسلاميين ولا سيما بعد بروز قوتهم التعبوية ونجاحهم في
إسقاط مشروع الخطة المذكورة، كما أن التيار الإسلامي سيعتبر بدوره أن مؤسسة إمارة
المؤمنين ضمانة للحفاظ على المرجعية الإسلامية لاسيما في التشريعات المتعلقة
بالمرأة والأسرة وقضايا الإرث وغيرها، وسيستند على الصفة الدينية للملك في مواجهة
مطالب الحركات النسائية ذات النزعة العلمانية.
الانتخابات التشريعية لسنة 2002 والمساهمة في تعيين وزير أول تكنوقراطي
ضدا على المنطق الديمقراطي..
بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2002 نجح حزب الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية في تصدر النتائج للمرة الثانية بحصوله على 50 مقعدا، ولو بفارق
مقعدين عن حزب الاستقلال، كما حقق حزب العدالة والتنمية نتائج جيدة باحتلاله
للرتبة الثالثة بحصوله على 42 مقعدا، وهو ما عزز من مكانته في الحياة الحزبية.
إن أداء حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة تحكمت فيه اعتبارات إيديولوجية أكثر منها اعتبار الانتصار للمنطق الديموقراطي، وتغلبت النزعة البراغماتية داخله على حساب النزعة الديموقراطية، ولم يلعب دورا مساعدا من أجل ترسيخ المسار الديموقراطي، وساهم بقدر معين في تفكيك الكتلة الديموقراطية وفي إضعاف موقف الاتحاد الاشتراكي الذي كان يقود تجربة التناوب آنذاك..
كانت المنهجية الديمقراطية تقتضي تعيين الوزير الأول من الاتحاد
الاشتراكي، وإن كان دستور 1996 لا يلزم الملك بذلك، غير أن تحالف الكتلة سيصطدم
برغبة داخلية لتحقيق "تناوب حزبي" من أجل قيادة التجربة، حيث قام حزب
الاستقلال برئاسة عباس الفاسي آنذاك إلى قيادة اصطفاف جديد من خارج تحالف الكتلة،
مدعوما هذه المرة من قبل حزب العدالة والتنمية، حيث وقع كلا الحزبان إلى جانب حزب
الحركة الشعبية بيانا يتحفظ على تعيين وزير أول من حزب الاتحاد الاشتراكي.. في
مقابل تكتل سياسي آخر يقوده الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم
والاشتراكية وحزب الأحرار، وهو ما مهد الطريق أمام تعيين وزير أول تقنوقراطي،
والخروج عن المنهجية الديمقراطية، مما دفع بعبد الرحمن اليوسفي إلى تقديم استقالته
من الحياة السياسية والإعلان عن فشل تجربة الانتقال الديموقراطي في محاضرته
الشهيرة التي ألقاها في بروكسيل.
والخلاصة:
ـ إن الانقسام الإيديولوجي على أرضية الهوية لم يكن في صالح إنضاج
شروط الانتقال الديمقراطي، بقدر ما زرع شرخا واسعا بين القوى السياسية عنوانه
المركزي هو اختلاف المرجعيات الفكرية والإيديولوجية التي لم تنجح القوى السياسية
في تأجيله إلى حين ترسيخ المسار الديمقراطي في البلاد، وبلورة الآليات المؤسساتية
الكفيلة بحله عن طريق الحوار.
ـ إن تجربة التناوب التوافقي لم تكن مؤطرة بإرادة الانتقال الديمقراطي،
بل كانت بمثابة تناوب سياسي ظرفي معزول عن مفهوم الانتقال الديمقراطي، أملته
اعتبارات انتقال الملك إلى جانب الوضعية الاقتصادية الصعبة التي كان يعيشها المغرب
آنذاك، ولم يظهر أن هناك إرادة جماعية للانتقال بالمغرب إلى تبني الديمقراطية
الحقة كمنهج في الحكم والتسيير.
ـ إن
أداء حزب العدالة والتنمية خلال هذه المرحلة تحكمت فيه اعتبارات
إيديولوجية أكثر منها اعتبار الانتصار للمنطق الديموقراطي، وتغلبت النزعة
البراغماتية داخله على حساب النزعة الديموقراطية، ولم يلعب دورا مساعدا من أجل
ترسيخ المسار الديموقراطي، وساهم بقدر معين في تفكيك الكتلة الديموقراطية وفي
إضعاف موقف الاتحاد الاشتراكي الذي كان يقود تجربة التناوب آنذاك..
ـ حزب الاتحاد الاشتراكي بدوره لم يساهم في تبديد مخاوف حزب العدالة
والتنمية المتعلقة بالمحافظة على الهوية وعدم المس بالقطعيات الإسلامية في القوانين والتشريعات، ولم يقدم ما يكفي
من الضمانات المناسبة بعدم الإقصاء والاستعداد للتعاون مع حزب العدالة والتنمية،
وهو ما سينكشف مع التفجيرات الإرهابية التي تعرضت لها بعض المنشآت السياحية بمدينة
الدار البيضاء، حيث لم يتردد قياديو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في
تحميل حزب العدالة والتنمية المسؤولية المعنوية حول هذه الأحداث، بل وصلت الحماسة
بأحد قيادييه البارزين إلى المطالبة بحله.
ـ استمر الجفاء بين الحزبين رغم بعض المراحل القليلة التي تميزت بنوع
من التنسيق والتعاون على المستوى المحلي مثل تحالف مدينة الرباط في أعقاب
الانتخابات البلدية لسنة 2009، غير أن موقف الاتحاد الاشتراكي كان صادما بعدم
المشاركة في الحكومة التي شكلها عبد الإله بنكيران في أعقاب الدينامية الاحتجاجية
التي عاشها المغرب خلال مرحلة الربيع العربي.
في الحلقة القادمة نتوقف عند تفاعل حزب العدالة والتنمية مع رياح
الربيع العربي.