في حلقة سابقة هنا في
"عربي21"، قلنا بأن التقييم النقدي
للتجربة التنظيمية لحركة التوحيد والإصلاح ولحزب العدالة والتنمية بالتبع، ينطلق
من التفاوت الحاصل بين سمو المنطلقات والقيم والأخلاقيات المعيارية التي تؤسس لهذا
النموذج التنظيمي، وبين الممارسة التنظيمية للأفراد والمؤسسات والتي كشفت عن
مجموعة من الصعوبات والتحديات، وكانت بمثابة الاختبار الحقيقي لمنظومة القيم
المؤطرة ومدى صلابتها وفعاليتها، وقد كشفت التجربة الميدانية عن مجموعة من
الملاحظات التي نحاول تسليط الضوء عليها، مع التسليم منذ البداية بمشروعية العمل
التنظيمي وأهميته في العمل السياسي بالخصوص.
في التسليم بأهمية التنظيم في العمل السياسي..
قبل قرون نبه ابن خلدون إلى أهمية التنظيم ودوره في صعود الدول
والجماعات، وإلى أهمية ذلك الرابط الاجتماعي الذي يربط بين أبناء القبيلة أو أي
مجموعة أخرى، ويجعلهم متجانسين متعاونين في الشدة والرخاء، وهو شرط أساسي لتأسيس
الدول والممالك.
والحقيقة أن فكرة التنظيم تجد جذورها في الإسلام نفسه، فهو دين منظم
وفرائضه تؤدى في أوقات محددة، وشعائره تخضع لقاعدة الأداء الجماعي المنظم وهو ما
يضمن لها الاستمرارية في الزمان، فلو تم التعويل على إرادة لأفراد لضاعت هذه
الشعائر وتلاشت بتراخي الأفراد وضعف عزيمتهم.
كما أن الدعوة إلى الله تحتاج من الناحية المبدئية لعمل جماعي منظم:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) أي: ولتكن منكم أيها المؤمنون، أمة، أي: جماعة يدعون الناس إلى
الخير، والجماعة هي مفهوم يحيل على الاجتماع والتنظيم والتداول والتشاور
(وأَمرُهُم شُورَى بَيْنَهُم ).
وهناك آيات أخرى تحث على التعاون على الخير والصف المرصوص وغيرها من
المعاني التي تؤكد أهمية العمل الجماعي المنظم..
لكن شكل تنظيم هذا العمل الجماعي وأسلوب إدارته، هو متروك للاجتهاد
والإبداع حسب ما يتلاءم مع البيئة والظروف والأحوال والسياقات، ولذلك فإن ملاحظتنا
النقدية على نموذج تنظيمي بعينه لا تصل إلى درجة نبذ فكرة التنظيم أو القول بنهاية
صلاحيتها..
فكرة العمل الجماعي المنظم انتقلت إلى العمل الإسلامي في
المغرب
نتيجة التفاعل مع
تجارب خارجية وأخرى داخلية، فقد كانت هناك محاولات لربط الجمعيات
الدعوية في المغرب بجماعة الإخوان المسلمين، غير أن قادة العمل الإسلامي بالمغرب
رفضوا أي ارتباط تنظيمي بالخارج وحافظوا على الصيغ المحلية في تنظيم عملهم دون أن
يخفوا تأثرهم الفكري بأدبيات الإخوان المسلمين قبل أن ينتبهوا إلى الفكر الوطني
المغربي وإلى التراث العلمي والدعوي الذي خلفه علماء المغرب، وإلى ادبيات الحركة
الوطنية التي الذي تنهل من المرجعية الإسلامية.
فكرة التنظيم بين الهدف الرسالي والمنطق الطائفي
الأصل في التنظيم أنه وسيلة للإسهام في الإصلاح وليس هدفا مقصودا
لذاته، لكن التنظيم في بعض الأحيان يبدو وكأنه منشغل بوضعيته الداخلية أكثر من
اهتمامه بالقضايا المطروحة في الساحة، أو لنقل إن سرعة تفاعله مع القضايا والوقائع
والأحداث تتأثر كثيرا بطريقة اتخاذ القرار داخل التنظيم.
وتبرز هذه الملاحظة في محطات عديدة حينما يعبر المجتمع أو بعض
مكوناته عن استعداده للانخراط في معارك إصلاحية بطريقة تلقائية بعيدا عن التنظيم
الذي يتحول إلى قوالب صارمة ليس في مقدور المواطن العادي أن يتحملها.
فكرة العمل الجماعي المنظم انتقلت إلى العمل الإسلامي في المغرب نتيجة التفاعل مع تجارب خارجية وأخرى داخلية، فقد كانت هناك محاولات لربط الجمعيات الدعوية في المغرب بجماعة الإخوان المسلمين، غير أن قادة العمل الإسلامي بالمغرب رفضوا أي ارتباط تنظيمي بالخارج
هنا يشعر الأعضاء الرساليون أن قواعد التنظيم الجاهزة كابحة لطاقاتهم
ومعرقلة لطموحاتهم، فيتسرب الإحساس بأن التنظيم بأسلوبه الحالي عاجز عن استيعاب
العديد من أفراد المجتمع وطاقاته الخيرة، وغير قادر عن الانخراط في بعض المحطات
التي تعرف فيها البلاد ديناميات احتجاجية نابعة من المجتمع المدني تدور في الغالب
حول شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، ويتم
التساؤل: ما جدوى التنظيم إذا كان كابحًا لأشواق الناس في الحرية؟
والحقيقة أن الفكرة لا غنى لها على التنظيم، فالفكرة الإصلاحية هي
الهدف والتنظيم هو الوسيلة الأكثر فعالية لتحقيق الأهداف الإصلاحية وخلق التراكم
الفكري والبشري المنظم الحامل للفكرة والمستعد للعمل من أجلها.
غير أن التنظيم بدون فكرة إصلاحية مؤطرة ومستوعبة وواضحة يصبح عبارة
عن "جماعة مصالح " يضعف تأثيرها في ميدان الإصلاح السياسي، بل يبقى
وجوده رهين بالمصالح التي يحققها لأعضائه، وهو ما يفسر اختفاء بعض التنظيمات
السياسية وترهل بعضها الآخر بعدما كانت تنطلق من فكرة إصلاحية وتحولت تدريجيا إلى
جماعة مصالح يجمع بين أعضائها منطق الاستفادة التي يوفرها لهم العمل العام بواسطة
آلية التنظيم..
لكن هل يمكن للفكرة الإصلاحية أن تصمد بدون تنظيم قوي؟ سؤال يحتاج
إلى إجابة واقعية بعيدا عن رومانسية بعض الأفكار الحالمة التي تعتقد بإمكانية
تجذير الفكرة الإصلاحية داخل "فطرة المجتمع" بعيدا عن قوالب التنظيم
وقواعده الصارمة.
والحقيقة، أنه مع التسليم بالفكرة القائلة بأن حجم المقتنعين بالفكرة
الإصلاحية هم أكبر من التنظيمات، بل ربما يتجاوزون التنظيمات في التعبير عن
مطالبهم في الحرية والديمقراطية، فإن الدور الحيوي للتنظيمات السياسية التي تنصت
لنبض المجتمع، وتمتلك القدرة على عقلنة مطالبه وصياغتها بلغة سياسية واضحة لا يمكن
أن يعوضها فيه أحد.
لكن المشكلة تحصل بالتأكيد حينما تنفصل مطالب التنظيم عن تطلعات
المجتمع أو حينما يتحول التنظيم تدريجيا إلى طائفة..
هنا لا بد من توضيح الفرق بين الطائفة وجماعة المصالح، الطائفة ليست
مجتمعة حول مصالح شخصية، ولكنها جماعة منظمة تؤمن بالفكرة الإصلاحية لكنها تعتقد
في "عصمة" اختياراتها وتؤمن بأن وجود التنظيم واستمراريته ووحدته هو هدف
في حد ذاته، وهذا المنطق يتطور إلى درجة اغتيال الحس النقدي داخلها الذي قد يعتبر
" تهديدا لبيضة التنظيم" وإضعافا له، أما النقد والتنبيه الذي يأتيها من
خارجها فلا تعتبره إلا "مؤامرة" أو "أجندة خارجية" لشق صفوفها!!
حينما يتسرب منطق الطائفة إلى التنظيم، يجد صعوبة كبيرة في التفاعل
مع مطالب المجتمع ولا يشعر بالتحولات التي تعتمل داخله، لأن هذا المنطق يعيش نوعا
من التعالي على المجتمع، وهذا التعالي يدفعه إلى إنكار الواقع في كثير من الأحيان..
حينما يتحكم منطق الطائفة في التنظيم، يصبح عاجزا عن الاعتراف حتى
بالتحولات التي تجري داخله، أو بالاختلافات الطبيعية التي يمكن أن تحصل داخله أو
بين بعض قياداته، ويبحث لها دائما عن تفسير خارجي وينسى أن التنظيم في أصله هو
تعبير عن فكرة إصلاحية يحتضنها المجتمع، وليس فئة طائفية أو مجموعة مصالح منشغلة
بتدبير منافعها الذاتية..
حينما يتسرب منطق الطائفة إلى التنظيم، تنتعش نظرية المؤامرة ويصبح
أسلوب " تصدير الأزمة" منهجا للهروب من مواجهة الإشكاليات الحقيقية
والانتقادات الموضوعية التي من الطبيعي أن توجه للتنظيمات باعتبارها اجتهادات
بشرية، لا مكان فيها لادعاء العصمة أو امتلاك الحقيقة المطلقة.
بين مبدئية منطق الشورى والقيادة الجماعية وإرهاصات منطق الزعامة
تميزت كل من تجربة حركة التوحيد والإصلاح وتجربة حزب العدالة
والتنمية بالإعلاء من قيمة الشورى والعمل المؤسساتي (تناوب على قيادة حركة التوحيد
والإصلاح أربعة رؤساء، بينما انحصر التداول على قيادة الحزب بين شخصيتين فقط:
العثماني وبنكيران)، فكل القرارات التي تهم سير العمل تتخذ داخل المؤسسات المعنية،
وفي حالة الاختلاف تتخذ القرارات بالتصويت، وكان هذا الأسلوب في العمل يخلق نوعا
من التكامل داخل الجهاز القيادي ويسمح بإبراز صورة الحزب الذي يزخر بمؤهلات قيادية
متعددة.
هذه الصورة ستبدأ في التغير منذ انتخاب عبد الإله بنكيران سنة 2008،
وستأخذ بعدا جديدا منذ الموقف الذي عبر عنه عبد الإله بنكيران بعدم الاستجابة
لنداء التظاهر الذي أطلقته "حركة 20 فبراير"، قبل أن تتداول قيادة الحزب
في الموضوع، وهو الموقف الذي كانت له تداعيات سلبية على مستوى قيادة الحزب آنذاك (
احتجاجات 20فبراير وتعامل حزب العدالة والتنمية معها ستكون محل تقييم خاص)..
تميزت كل من تجربة حركة التوحيد والإصلاح وتجربة حزب العدالة والتنمية بالإعلاء من قيمة الشورى والعمل المؤسساتي (تناوب على قيادة حركة التوحيد والإصلاح أربعة رؤساء، بينما انحصر التداول على قيادة الحزب بين شخصيتين فقط: العثماني وبنكيران)،
منذ ذلك التاريخ سيتعرف المغاربة على شخصية الأمين العام لحزب
العدالة والتنمية الذي اختار الوقوف في وجه دينامية احتجاجية متشبتا في نفس الوقت
بالدفاع عن حاجة البلاد إلى إصلاحات حقيقية، وقد قاد بنكيران حملة انتخابية قوية
بمناسبة تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، محققا بذلك الرتبة الأولى لأول مرة
في تاريخ الحزب ومعبدا الطريق أمام حزب العدالة والتنمية لقيادة الحكومة تطبيقا
لمقتضيات الفصل 47 من الدستور الجديد التي تلزم الملك بتعيين رئيس الحكومة من
الحزب الأول على أساس نتائج الانتخابات..
ومع تعيين عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة سيزداد تعرف المغاربة على
شخصية عبد الإله بنكيران وسيتمكن من خلال مروره المباشر عبر القنوات التلفزية
العمومية التي كانت تنقل جلسات المساءلة
الشهرية للبرلمان أن يلفت انتباه فئات عريضة من الشعب المغربي التي لمست في خطاب
عبد الإله بنكيران أسلوبا جديدا في التواصل السياسي بعيدا عن الرتابة المعتادة عند
الوزراء الأولين السابقين ومنسوبا من الصراحة غير المعتادة في خطاب المسؤولين وجرأة واضحة في التعاطي مع بعض القضايا والملفات الحساسة، وذلك من خلال أسلوب
خطابي قوي نجح في توسيع قاعدة المتعاطفين مع الحزب ورفع شعبيته إلى مستويات غير
مسبوقة، وفي هذا السياق حقق الحزب مع عبد الإله بنكيران نتائج مبهرة خصوصا في
الانتخابات البلدية ليوم 4 أيلول (سبتمبر) والانتخابات التشريعية ليوم 7 تشرين أول
(أكتوبر).
بالموازاة مع هذا النجاح الكبير كان الحزب يفقد تدريجيا إحدى مقومات
عمله الأساسية ويتراجع بشكل تدريجي عن منطق الشورى والتدبير الجماعي لفائدة منطق
الزعامة وبداية التأسيس لنمط من التدبير لشؤون الحزب يعتمد على الزعامة الفردية
وكاريزما التواصل السياسي بالأساس.
وكان من النتائج الطبيعية لهذا التحول الارتباك الذي حصل في تدبير
وضعية عبد الإله بنكيران داخل الحزب بعد قرار الإعفاء الملكي له رئيسا مكلفا
بتشكيل الحكومة بعدما سمي بالبلوكاج (تعثر تشكيل الحكومة بعد انتخابات 7 تشرين أول/ أكتوبر سيكون موضوع مقال خاص)، وهو ما أثر في الأداء العام للحزب وسمح بانكشاف
لحمة التماسك التنظيمي التي عرف بها حزب العدالة والتنمية، كما أظهرت المواقف التي
كان يعبر عنها عبد الإله بنكيران عبر وسائل التواصل الاجتماعي الصعوبات التي واجهتها قيادة الحزب في المزاوجة
بين ضمان حق الأفراد في التعبير وبين ضرورة الحفاظ على قيمة الانضباط الحزبي وقوة عمل المؤسسات.
في الحلقة القادمة نتابع القراءة النقدية لهذه التجربة.