منذ أن تحول من نكرة إلى معرفة في نيسان/ أبريل من عام 2019، وعبد
الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش
السوداني، يواصل التحوُّر
والتلوُّن، أي لا يثبت على موقف أو مبدأ، فالرجل الذي كان تابعا أمينا للرئيس عمر
البشير الذي أطاحت بحكومته حركة جماهيرية كاسحة، استطاع بانتهازية ميكافيلية أن
يجلس على كرسي البشير، بل وأن يسكن حيث كان يسكن البشير، فلا يهمه من أمور الحكم
إلا ما تجلبه عليه من هيلمان وطيلسان، ولم يعرف السودان على عراقته في مجال
الحكومات والانقلابات
العسكرية حاكما في دموية البرهان.
وطوال السنوات الأربع التي تربع فيها البرهان ورهط من عسكر السمع
والطاعة في القصر الجمهوري، لم يخرج موكب تأييد واحد له، في موازاة مواكب أسبوعية
تطالب ليس فقط بخروجه من القصر بل ذهابه إلى السجن وفيه إلى المقصلة، ثم توالت
عليه مؤخرا الضغوط الدولية كي ينسحب من المشهد السياسي، فأبدى انصياعا، ووقع على
اتفاق إطاري يقضي بنقل السلطة كاملة إلى القوى المدنية التي تحظى بسند شعبي،
لكونها من قاد الحراك ضد حكم عمر البشير.
ولكن كل من يرصد الأوضاع في السودان، بات يعرف أن البرهان دون سوء
الظن بكثير، فهو رجل لا عهد له، فقد ظل يشيد بـ"ثوار ديسمبر" في إشارة
لقوى الحراك الشعبي ضد حكم البشير، انطلاقا من كانون أول/ ديسمبر 2018، ثم يوعز
لجنده بإشباعهم قتلا وإثخانهم جراحا، ووعد عديد المرات بأن يبقى يقظا لمنع حدوث أي
انقلاب عسكري يعيق تشكيل حكومة مدنية، ثم كان أن انقلب 100% على حكومة شبه مدنية،
وصار الحاكم العسكري ذا الصلاحيات المطلقة منذ 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021.
ولأن البرهان مجبول على الكذب والخداع والتنصل من العهود فقد بدأ في
التنصل من الاتفاق الإطاري بزعم أنه بحاجة إلى مزيد من الأطراف كي يبقى نافذا، ثم
أوعز إلى جنرال عضو في الكورال المصاحب له، وهو شمس الدين كباشي (صار معروفا
بكضباشي، والكضب في العامية السودانية هو الكذب)، كي يبرر الانسحاب التكتيكي من
الاتفاق، فذهب الرجل كعادته إلى حيث عشيره في جنوب إقليم كردفان، وقال "الجيش
لن يحرس دستورا كتبه عشرة أشخاص"؛ ولن يجيب هو أو البرهان على السؤال: ولماذا
وقعتم على الاتفاق والدستور الخديجين؟
بلغ الهوان بالبرهان أن سكت على التدخل المصري السافر في شأن داخلي
بغرض نقض غزل الاتفاق الإطاري، فطوال الأسبوع الماضي احتضنت المخابرات المصرية ما
أسمته بالحوار السوداني ـ السوداني، حيث وضعت جدول أعماله وحددت من لهم الحق في
الكلام، ومنعت وسائل الاعلام السودانية من تغطيته، ثم جاء البيان الختامي مطابقا
للاتفاق الإطاري بنسبة 99%، فغاية الحكومة المصرية هي الزج بعملائها في السودان
والقوى التي ناصرت انقلاب البرهان الأخير في أي ترتيبات لتشكيل حكومة انتقالية مدنية
شكلا، بينما يبقى العسكر قادرين على تحريكها من خلال مناصريهم المدنيين
"شكلا".
وبلغت الخفة بالمخابرات المصرية التي كتبت سيناريو تلك المسرحية
وأخرجتها، أن من بين المشاركين في الحوار المزعوم 15 شخصا من فصيل شبه عسكري واحد،
تربطهم قرابة دم، بل جلس الحراس الشخصيون للوردات الحرب على طاولات الحوار، ثم
كانت الفضيحة أن تخرج الوثيقة النهائية وهي تحمل توقيع شخص واحد قرين خمسة أسماء،
وأن يأتي اسم قائد تنظيم الأسود الحرة في شرق السودان د. مبروك مبارك سليم ضمن
الموقعين على الوثيقة، بينما لم تطأ قدما الرجل أو من ينوب عنه أرض مصر.
كل شيء في السودان في حال انهيار عمودي، وحكومته تعجز عن توفير الرواتب للموظفين، ودعم خدمات الصحة والتعليم، وبينما المليشيات القبيلة تتكاثر كالفطر منذرة بتفجير الأوضاع في أقاليم ظلت آمنة عبر القرون، نشرت أجهزة إعلام البرهان إنجازا ضخما له، تمثل في عقد مصالحة بين ممثل مسرحي مغمور إسمه أحمد الجقر، ومنتج أعماله جلال حامد، وفي مثل هذا يقال إن "الفاضي يعمل قاضي"، ويترك المهام الجسام للكفلاء في مصر وإسرائيل وروسيا.
خلال الأسبوع المنصرم استقبلت الخرطوم موفدين من بريطانيا والنرويج
والولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي وفرنسا، وكانت
غايتهم الضغط على البرهان كي يمضي بالاتفاق الإطاري إلى غايته بالتوقيع على اتفاق
نهائي يقضي بتشكيل حكومة مدنية، ولكن كانت لحاوي الحاويات حيلة أخرى: (فاز البرهان
بهذا اللقب لأنه وكلما تم الإعلان عن موكب رافض لحكومته العسكرية، يحرك الرافعات
الضخمة لسد الجسور التي تربط مدن العاصمة السودانية الثلاث بحاويات البضائع بحيث
يتعذر التحام المواكب)، وتلك الحيلة هي اختتام التوافد الأجنبي على السودان
باستقبال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
وصل لافروف إلى الخرطوم يوم الأربعاء الماضي، قادما من بلد يغرق في
وحل حرب ضروس أخطأ تقديرات الخوض فيها، ويبحث عن حلفاء غير بلاروسيا والصين وإيران
وكوريا الجنوبية، وقد أثبت البرهان أنه بيدق يسهل تحريكه بوعود الإسناد، فقد تمادى
في الانبطاح أمام إسرائيل، واستقبل مؤخرا وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين
وتعهد له بالتوقيع في حفل في واشنطن على مراسيم التطبيع الكامل بين السودان
وإسرائيل، ولا يعنيه في شيء أنه بذلك يستفز
الرأي العام السوداني، وأنه بلا سند
قانوني أو دستوري يخول له حق التوقيع على اتفاقيات دولية.
حتما سيؤكد لافروف للبرهان أن روسيا تدعمه بقوة، ولكن الغاية
الحقيقية من ذلك الدعم هو أن البرهان والطغمة العسكرية القابضة على زمام الأمور في
السودان، مستعدة لبيع شواطئ البحر الأحمر لروسيا لتقيم فيها قاعدة عسكرية، وتبارك
وجود مرتزقة فاغنر الروس في السودان حيث يعملون في تهريب الذهب على المكشوف، بينما
تكثف واشنطن ضغوطها على البرهان لطرد فاغنر من البلاد.
وبينما كل شيء في السودان في حال انهيار عمودي، وحكومته تعجز عن
توفير الرواتب للموظفين، ودعم خدمات الصحة والتعليم، وبينما المليشيات القبيلة
تتكاثر كالفطر منذرة بتفجير الأوضاع في أقاليم ظلت آمنة عبر القرون، نشرت أجهزة
إعلام البرهان إنجازا ضخما له، تمثل في عقد مصالحة بين ممثل مسرحي مغمور إسمه أحمد
الجقر، ومنتج أعماله جلال حامد، وفي مثل هذا يقال إن "الفاضي يعمل
قاضي"، ويترك المهام الجسام للكفلاء في مصر وإسرائيل وروسيا.