(غيظ)
لما انهزم عرابي في مواجهة جيوش الغزاة البريطانيين
شرق القاهرة، لم ينبهر الناس بقوة الإنجليز، ولم يتحدثوا عن فارق التسليح وخطط
المعركة، بل قالوا باقتناع: "الوَلْس كسر عرابي".
في تلك المعركة وفي غيرها لم تكن الموالسة من صغار
الجنود، لكنها كانت من قادة ومسؤولين كبار، على رأسهم الحاكم نفسه الذي استعان بالإنجليز
ضد عرابي!
القصة مكررة في تاريخنا لدرجة الشعور بالإحباط واليأس
من نزاهة ورجاحة رؤوس هذه الأمة التعيسة، فكلما تكشفت ممارسات الخيانة السافرة من
حكام ينامون مع الأعداء بلا خجل ويسمون ذلك "سياسة" أو "سيادة" أو
"حماية للأوطان" يصيبني شعور مؤلم بالغثيان و"القرف"، ويملأني
الغيظ من عقوبة الانشغال بالشأن العام في بلاد كهذه، فآلهة البلاد هم شياطينها،
وحماتها هم لصوصها وعصابات النهب المتحالفة مع أعدائها.
(لكن..)
لما بدأت سلسلة مقالات "الخيانة كوجهة نظر"
كنت أبتغي توصيل رسالة للناس عن العمق التاريخي للخيانة في صفوف القادة والنخب
العربية، للإشارة إلى أن الهزيمة الحضارية التي نعيشها لها رعاة في القصور وأقطاب
في العمل التجاري، وفي مجالات كثيرة تتحكم في معيشة الناس كالتعليم والإعلام
والصحة وأنواع الطعام التي تحولت إلى سموم بدلا من كونها غذاء..
* لكن المقالات بكل ما فيها من وقائع تاريخية مثبتة تبدو
هزيلة في مواجهة واقع الخيانة الآني الذي يمارسه الحكام العرب على الهواء مباشرة،
قد يكون ملك البحرين وأمراء النفط في الخليج وسلالة الوارثين للحكم في المملكة
الأردنية، قد يكون لديهم "وجهة نظر" تستند إلى تبرير تحالفهم مع الشيطان
بهدف المحافظة على عروشهم المتوارثة.
* لكن..
ما الذي دفع ضابطا مثل السادات للارتماء في حضن أعداء،
نال شرعيته من محاربتهم والانتصار عليهم؟
وما الذي يدفع ضابطا مثل
البرهان لتلويث شرف
السودان
الوطني وإسقاطه في الوحل الصهيوني؟..
وما سر صمت الجيوش العربية عن هذه الخيانات العلنية،
برغم أنها تكتسب وجودها وتبرر ميزانياتها المهولة بالدفاع عن البلاد والتصدي
للأعداء؟
وما جدوى الكليات العسكرية إذا كانت هي المزرعة
الخبيثة التي تقدم الخونة وتنصبهم رؤوساً وأوصياء على البلاد، وبدلا من محاربة
الأعداء يبادلونهم الأنخاب ويفتحون لهم الأبواب ويهيئون لهم حفلات الاغتصاب؟
أي واقع هذا؟ وكيف يمكن التعايش معه بدون خجل.. وبدون
غيظ، وبدون الدعاء باللعنة على هؤلاء الخونة، والسعي بكل ما نستطيع لتنظيف البلاد
من أوساخهم؟
قد نجد مبررا لدبلوماسي يشارك في حوار مع العدو أو
يجتمع به في لقاء لا يمس الشرف..
* لكن..
كيف يتقبل العقل، وكيف يتقبل الشرف العسكري أن يتصافح
قادة الجيوش مع قتلة زملائهم وأهاليهم في المدارس والمصانع والبيوت؟
كيف ينسى المحاربون (المسوخ) خمس حروب ومجازر مثل بحر
البقر وأبو زعبل والمصانع المقصوفة فُجرا في السودان؟
(العدو)
كشف الإعلام الصهيوني قبل أكثر من عام عن موافقة
"قادة السودان" على دخول الحظيرة الصهيونية من خلال اتفاق سلام، حينها
كان الحديث ساخنا عن هوية الأطراف العربية التي فقدت مناعتها الوطنية وأبدت موافقة
على المضي في طريق الإمارات والبحرين، وهو الحديث الذي يتم التمهيد له مع السعودية
في إطار "خلطة الشرق الأوسط الجديد". كل التأجيل يقترن بالاحتياج إلى
وقت أطول لتهيئة المجال لسقوط السعودية في الخطيئة من غير قلاقل كبيرة في الأوساط
الشعبية والدينية التي تتعامل مع
إسرائيل بمفهوم ديني أكثر منه سياسي.
الواضح (بكل حزن وألم) أن السعودية تمضي في مخطط كبير
وخبيث لنقل إسرائيل من "خانة العدو" والسعي لصناعة أعداء جدد تتم تعبئة
الرأي الشعبي ضدهم، والأمر لا يخص إيران فقط، ولا يقف حتى عند منظمات للمقاومة مثل
حماس والفصائل
الفلسطينية المختلفة، لكنه يطال اسم فلسطين نفسها في الذاكرة
العربية. ولعل ردود الفعل على واقعة عدم تصويت فلسطين لصالح السعودية من أجل
استضافة بطولة في كرة القدم، كانت كاشفة للحمى الخبيثة التي تستهدف نزع التعاطف مع
فلسطين من الوجدان الشعبي. فقد صار الفلسطينيون (بعد تغريدة تحريضية لمسؤول سعودي
رسمي) شعبا ناكرا لأفضال السعودية ودعمهم للقضية، ولا بد من التنصل من هذه القضية
وتعليم الفلسطينيين الأدب!
وبالرغم من التوضيح الذي قدمه المسؤول الرسمي
الفلسطيني، بأن "عدم التصويت للسعودية" تم عن طريق الخطأ وقلة خبرة
المندوب الفلسطيني الذي يشارك لأول مرة في اجتماع كهذا، إلا أن الحملة
"المشتهاة" تصاعدت لتكشف لنا الكثير من خبايا الاتجاه الذي ترتب له
القيادة "التحديثية" في أرض الحرمين.
هكذا تتم صناعة أعداء كثيرين للجيوش العربية وقصور
الحكم "الموالِسة"، فالنقابات المهنية صارت "أعداء" يتفق قادة
العرب على محاربتها، والأحزاب "أعداء"، وكل من يطالب بالحرية "أعداء"،
كذلك كل من يطالب بالعدل والعيش الكريم وتفعيل الدساتير والقوانين
"أعداء"، وكل من يكتب على مواقع التواصل مخالفا الاتجاه الرسمي"
أعداء"، وكل من يتحدث عن الأسعار وفشل الإدارة العليا "أعداء".
باختصار صارت الشعوب العربية هي "الأعداء" التي
تسلح من أجل ردعها "حكام الموالسة"..
وما البرهان إلا واحدا في طابور الموالسة الذي يخدم
"مجلس السيادة الصهيوني" الذي يخوض معركة الهيمنة على المنطقة، مستعينا
بقادة الطابور الخامس الذي نجح في احتلال قصور الحكم العربية.
اللهم إني ضعيف ومغلوب ومظلوم ومكلوم ومقهور، فانتصر..
اللهم لا تؤخر نصرك، ولا تتركنا فريسة لمن لا يخافك
ولا يرحمنا..
القصة متصلة، وفي المقال المقبل قد نعود إلى التاريخ
الفاضح لنكشف خطايا ما فات، وقد نواصل الصدام مع الواقع لنعطل ما استطعنا مسيرة
العار الآن.
[email protected]