ينتظر
القراء من كل أنحاء الوطن العربي تجدد موعد اللقاء مع دور النشر العربية والمحلية سنويًا،
خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولكن يأتي المعرض في نسخته الـ 54 كضيف ثقيل، نظرًا
لما يتطلبه المعرض من إنفاق مادي ربما لن يعده البعض ذا أولوية في تلك النسخة منه،
نظرًا للظروف الاقتصادية التي يمر بها البلد المستضيف والذي يضم أكبر قوة شرائية.
ورغم
ما يعانيه معرض القاهرة من أزمات سياسية في كل نسخة، إلا أن الأزمة التي تسيطر على
الجدل في هذه النسخة، هو الجدل بشأن الوضع الاقتصادي، فقد أصبح مسلمًا به لدى الجمهور
المصري ألا تشارك بعض دور النشر لتعارض سياسة نشرها مع الحكومة المصرية، وأن تُمنع
بعض الكتب من دخول مصر، أو تُصادر خلال المعرض لأنها تحمل مضامين مباشرة أو غير مباشرة
تتعارض مع دكتاتورية النظام القائم. ولكن كل تلك المشكلات، تتنحى جانبًا تاركة مجال
الجدل الواسع أمام الوضع الاقتصادي المزري.
الدولار
بين معرضين
في كانون
الثاني/ يناير الماضي، بالدورة الأخيرة للمعرض كان يبلغ سعر الدولار 15 جنيهًا مصريًا،
واستعراض سعر الدولار في ذلك السياق هام جدًا، لأننا سنوضح ما اختلف منذ اللحظة التي
انتهى فيها معرض الكتاب في دورته الـ 53 إلى اللحظة التي يبدأ فيها معرض الكتاب في
دورته الـ 54.
يلعب
الدولار الأمريكي دورًا محوريًا في صناعة النشر في الوطن العربي حاليًا، وهو ما يؤثر
بالتبعية على سوق الكتب في الوطن العربي. وفي السنة الأخيرة قد تضافرت الحرب الروسية
الأوكرانية وأزمة الدولار، ليشكلا سويًا ضربة قاصمة لصناعة النشر وصناعة الكتاب في
الوطن العربي وشرائه، وهي أزمة كانت تتجدد عمومًا في مصر بالأخص، ولكنها ستبلغ مداها
في المعرض القادم.
فمعرض
القاهرة الأكبر في الوطن العربي، تشترك فيه الكثير من دور النشر من خارج مصر وهي التي
تُسعر إصداراتها بالدولار الأمريكي لتعطي ثباتًا لسعر كتبها التي تسافر لمختلف المعارض
العربية بغض النظر عن تفاوت سعر الدولار الأمريكي من دولة عربية لأخرى، وبما يتناسب
مع القوة الشرائية من دولة عربية لأخرى.
ودور
النشر المحلية المصرية هي الأخرى ليست بمنأى عن أزمة الدولار الأمريكي في صناعة النشر
داخل مصر، فهي تعتمد بشكل أساسي على استيراد الورق. وقد ارتفع سعر طن الورق حتى بلغ
ما بين 40 إلى 50 ألف جنيه بعدما كان في حزيران/ يونيو الماضي يبلغ 15 ألف جنيه.
بالإضافة لما تحتاجه تلك الصناعة من خامات أخرى كالحبر والطابعات والتي تقوم دور النشر
باستيرادها أيضًا من الخارج بالدولار الأمريكي.
قارئ
مثلي، ربما يمكن تصنيفه في الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، وهي الشريحة التي ينتظم
فيها عدد كبير من القراء في مصر كانعكاس للوضع الطبقي والاقتصادي في مصر من الأساس،
قد بلغت مشترياته في المعرض الماضي ما يعادل 90 دولارًا أمريكيًا، مكنت لي شراء سبعة
كتب من الدور العربية المختلفة والتي لا يكون فيها سعر الكتاب مدعومًا أو محليًا، والتسعين
دولارًا في ذلك الوقت كانت تبلغ نسبتها 1350 جنيهًا مصريًا، وهو رقم متوسط ويمكن توفيره
من متوسط الدخل الشهري للفرد الذي يبلغ 2500 جنيه مصري شهريا. وفي معرض الكتاب
القادم، إذا احتجت شراء نفس المجموعة من الكتب فإنها ستكلفني 2660 جنيهًا مصريًا، أي
زيادة تقارب نسبة 100% عن أسعار المعرض الماضي، دون زيادة لمتوسط الدخل في المقابل،
ما يضع القارئ المتبضع أمام خيار أشبه بمعادلة صفرية.. إما أن يشتري أو يأكل.
نهب
محلي أم أزمة نشر؟
ولا
يختلف الوضع كثيرًا في صناعة دور النشر المحلية، والتي سبق وأن عرضنا الأزمات التي
تواجهها، ولكن إلى جانب تلك الأزمات فإن هناك بعض الدور التي تغالي في أسعار الكتب
التي تعرضها بستار الغلاء. ونورد مثالًا:
في حزيران/
يونيو الماضي، صدرت عن دار الشروق المصرية الترجمة العربية لكتاب "السعي للعدالة"
لكاتبه الدكتور خالد فهمي المؤرخ المصري والذي مر سعره منذ طرحه إلى اليوم بثلاثة تحولات.
كان الطرح الأول للكتاب بسعر مائتي جنيه، وفور حدوث أزمة استيراد الورق أعادت دار الشروق
وقبل نفاد الطبعة الأولى للكتاب من الأساس تسعير الكتاب مرة أخرى بـ 270 جنيهًا، والآن،
سيشارك الكتاب في المعرض بسعر 340 جنيهًا، وتلك الزيادة الجنونية التي يمر بها سعر
الكتاب فقط في ستة أشهر منذ طرحه في الأسواق. وذلك نموذج، يمكن ملاحظته من الأساس في
الكثير من تسعيرات دور النشر المحلية في مصر.
ولا
تتوقف الأزمة عند دور النشر المصرية المحلية الخاصة، فدور النشر الحكومية "الهيئة
العامة للكتاب-المركز القومي للترجمة" والتي من المفترض أنها تقوم بدور في تقديم
الكتاب للقارئ بأسعار رمزية، خاصة وأن الكتاب المدعوم بعيد عن قيمة المحتوى، ولكنه
الأسوأ من جهة ورق الطباعة والإخراج الفني للكتاب، فلذلك لا يكون مستغربًا رخص ثمنه،
ولا يكون مستهجنًا جودته، ورغم ذلك، تقوم تلك الدور بنشر طبعات حديثة ولكنها رديئة
الإخراج الفني وجودة الورق، ولكنها غالية الثمن. فكتاب من أجدد إصدارات المركز القومي
للترجمة هو "مواجهة الفاشية في مصر" سيبلغ ثمنه 340 جنيهًا، أي 11 دولارًا
أمريكيًا، وهو سعر باهظ إذا ما قورن بكونه صادرا عن دور حكومية مدعومة، قبلت جماهيرها
بضعف جودة الطباعة مقابل رخص الثمن، ولكن كيف لها أن تقبل الآن غلاء أسعارها!
كل تلك
العوامل تتضافر لتجعل معرض القاهرة في نسخته الـ 54 ربما ستكون الأسوأ في نسب البيع
والشراء ونجاح المعرض اقتصاديًا بالنسبة للقارئ ودور النشر سويًا، وتلك الأسعار تزيد
الأعباء على دور النشر التي تخاطب في إصداراتها بالتحديد جمهورا نخبويا وانتقائيا بشدة
في العناوين والموضوعات، وهو عدد محدود وضعيف في الوضع الطبيعي، فكيف ستحقق أرباحها
في الوضع الراهن. ودور النشر التي تعتمد على ثقافة الأكثر مبيعًا ورواجًا، والتي تبيع
اسم الكاتب أكثر من اسم الكتاب ربما لن تحقق هي الأخرى المكاسب التي اعتادت تحقيقها
سنويًا في
معرض القاهرة للكتاب وكتلته الجماهيرية الكبرى.
سيحاول
القراء الاتجاه إلى الكتاب المستعمل بالجناح الخاص ببائعي سوق الأزبكية في المعرض،
ولكن، لا يشكل الاعتماد على تلك الحيلة حلًا فعالًا، فلا يمكن لسوق الكتاب المستعمل
تغطية احتياجات القارئ بشكل كامل، كما أنه سيفتقر بكل تأكيد إلى ما يُطرح من العناوين
الجديدة في معرض الكتاب والتي ينتظرها القراء سنويًا، فمعرض الكتاب للإصدارات الجديدة،
كموسم العيد بالنسبة للأفلام في دور السينما. كما أن المعرض لا يشارك به باعة الكتب
المزورة، والتي ظلت تشكل حلًا بديلًا للقارئ رغم الجدل الأخلاقي والقانوني الدائر حول
ذلك الحل البديل.
سخرية
جادة
حاولت
الحكومة أن تطرح وسيلة للتغلب على غلاء الأسعار تتمثل في تقسيط سعر الكتب من خلال التعاون
مع عدد من البنوك المحلية من خلال الشراء بالبطاقة الائتمانية، ولكن قوبلت تلك الفكرة
بموجة من السخرية، وهي سخرية مستحقة من حكومة تسخر من آلام ومشكلات شعبها باستمرار،
فبعد أفكار تقسيط "الكعك والبسكويت" في عيد الفطر الماضي وقبل الماضي كوسيلة
للتغلب على غلاء الأسعار وهي الوسيلة التي فشلت، يتجدد طرحها مرة أخرى فيما يتعلق بمعرض
الكتاب، الذي كان يومًا ما في مصر حقًا للجميع.