تحدثتنا في المقال السابق عن مؤسسة البرلمان واختطافها في دولة الضد التي
أسسها نظام الثالث من تموز/ يوليو، وكان من بين ما لفتنا في ذلك الموضوع اعتماد
طريقة التوريث، وذلك من خلال أن يكون المرشح الاحتياطي لنواب القائمة من بين أفراد
أسرة المرشح الأساسي، ورأينا كيف عندما قضت نائبة جاءت ابنتها خلفا لها، وهو أمر
منتشر في
البيروقراطية المصرية بشكل عام، خصوصا في مؤسسات مثل الجيش والشرطة
والقضاء والجامعات، وبعض الهيئات المرموقة التي تعتمد التوريث آلية رئيسية من آليات
التوظيف فيها.
وهناك الكثير من التصريحات لمسؤولين في هذه الجهات يعبرون بشكل صريح ومباشر
بأن أبناءهم هم الأولى لتقلد المناصب في هذه الجهات، إضافة إلى أنني لم أتوقف يوما
عن الحديث حول تلميذي "عبد الحميد شتا" الذي تسببوا في موته عندما رفضوا
تعيينه في مسابقة السلك التجاري والقنصلي؛ رغم اجتيازه جميع الامتحانات الشفهية
والتحريرية، وكُتب أمام اسمه في النتيجة "غير لائق اجتماعيا". ومع ذلك
فإننا نؤكد أن الجهاز الإداري للدولة المصرية على الرغم من أنه يعرف هذه السلوكيات
من قبل، إلا أنه في ظل نظام الثالث من تموز/ يوليو وصل إلى أقصى توظيف لهذه
الظاهرة وباتت هي المعتمدة في التعيين وليست الاستثناء.
ما يحدث في النظام الإداري المصري يعد نمطا من أنماط العصبية التي يقول بها ابن خلدون، وأن عملية التوريث في المناصب في مصر باتت هي النمط السائد الذي تحميه الدولة بالقانون والسياسات والإجراءات، ولكن التسمية الأصح التي نراها هي "العصابة" وليس "العصبية"، فلم يعد يخفى على أحد أن الوسيلة الأبرز لتقلد المناصب في مصر هي العائلة أو ما في حكمها من ارتباطات مصلحية أو مهنية
ما يؤكد على رواج هذا الأمر هي إِشارة بعض الباحثين إلى أن ما يحدث في
النظام الإداري المصري يعد نمطا من أنماط العصبية التي يقول بها ابن خلدون، وأن
عملية التوريث في المناصب في مصر باتت هي النمط السائد الذي تحميه الدولة بالقانون
والسياسات والإجراءات، ولكن التسمية الأصح التي نراها هي "العصابة" وليس
"العصبية"، فلم يعد يخفى على أحد أن الوسيلة الأبرز لتقلد المناصب في
مصر هي العائلة أو ما في حكمها من ارتباطات مصلحية أو مهنية، حتى أن تأمل أحوال
قياديي الانقلاب تعبر بصورة مباشرة عن المستوى الذي وصلوا إليه في تمكين أبنائهم
وأحفادهم في المناصب التي يشغلونها أو المؤسسات التي ينتسبون إليها. والأمر غير
قاصر عليهم، فصفحة الوفيات في الأهرام تكشف عن هذا الجانب بصورة واضحة، ففي بعض
الأحيان تجد أن نعي أحد القضاة يكشف عن وجود أكثر من 10 أفراد من أقارب الدرجة
الأولى في هذه المؤسسة، وهو أمر تفتخر به قيادات هذه المؤسسة وتعتبره إنجازا يستحق
الدفاع عنه.
وكما سبق وأشرنا في مقال لنا منتصف عام 2012، فقد أكدنا أن جهاز الدولة
البيروقراطي اتخذ من خدمة السلطان وظيفة، ومن فراعينه الصغار أداة لفرض الإذعان
على هذا الشعب، حتى إننا كنا نقول إن التدريب على
الاستبداد كان من خلال هذا
الجهاز البيروقراطي الراكد والفاسد، الخادم لسلطانه والعبد لسيده، والذي يمارس كل
صنوف تمارين الإذعان الصباحية لهذا الشعب يجهزه لقبول الاستبداد والتعامل معه
كحياة يومية.
هذا الجهاز لا يزال يعمل ضمن هذه الأساليب والطرائق، ربما لم يشعر أن مقتضيات الدولة الحديثة وفاعلية الإدارة العامة تعني ثورة على هذا الجهاز الفاسد بكل عناصره، وبكل فساد أساليبه المتعفنة، وبكل عقلياته التي تسير في مسار السيد والعبد. وقد اتضح ذلك جليا ضمن ممارسات الجهاز الإداري التي كانت تعمل في الخفاء، في إطار عقد سري غير مكتوب، ومؤامرات دُبرت بليل
هذا الجهاز لا يزال يعمل ضمن هذه الأساليب والطرائق، ربما لم يشعر أن
مقتضيات الدولة الحديثة وفاعلية الإدارة العامة تعني ثورة على هذا الجهاز الفاسد
بكل عناصره، وبكل فساد أساليبه المتعفنة، وبكل عقلياته التي تسير في مسار السيد
والعبد. وقد اتضح ذلك جليا ضمن ممارسات الجهاز الإداري التي كانت تعمل في الخفاء،
في إطار عقد سري غير مكتوب، ومؤامرات دُبرت بليل. كل ذلك شاهدناه ورأيناه رأي
العين حينما تولى الرئيس المنتخب الشهيد محمد مرسي، والذي جعل على ألسنة هؤلاء
الموظفين في مراكز خدمة المواطنين "خلي مرسي ينفعكم، مش انتخبتموه، افتكرونا
بقى بعد أربع سنين". هكذا بدا جهاز البيروقراطية يعمل في انهيار سلطة منتخبة
عن عمد وقصد في خدمة المتنفذين الحقيقيين في السلطة، والذين يمثلون العسكر
والأجهزة الأمنية.
ولفهم موقف جهاز الدولة من الثورة والديمقراطية والتعددية السياسية نتوقف
عند معالجة الحكيم البشري لهذا الجهاز منذ نشأته، في كتابه المهم "جهاز
الدولة وإدارة الحكم في مصر المعاصرة"؛ حيث نظم فيه عددا من الدراسات التي
تنظر إلى جهاز الدولة المصرية وعلاقته بالرأي العام وقواه السياسية والاجتماعية، وأشار
إلى أن ثورة يناير كانت تطالب بإعادة أجهزة الحكم على نحو ينبني على التعددية في
اتخاذ القرار وتشكيل أجهزة الدولة وبناء المؤسسات الاجتماعية والسياسية، لكن مع
الصراع على ثورة يناير انحازت أجهزة الدولة ضد الشعب المصري، واستفادت من الصراع
لتستبقي هيمنتها وسطوتها وتسترد ما تهدد من طابعها الاستبدادي. ويعد الحكيم البشري
أن ذلك الأمر هو المعتاد لهذا الجهاز الذي لم يخرج عن ذلك الأمر طوال تاريخه
الممتد لأكثر من مائتي سنة؛ إلا في فترات قليلة ونادرة عدها الحكيم البشري لا
تتجاوز تسعة أعوام.
ويذهب الحكيم البشري أبعد من ذلك بقوله: "إننا خلال ثلاثة أرباع القرن
الأخير عشنا في مصر حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز الدولة، وتشكلت في إطارها تجاربه
ومهاراته وأساليب إدارته للشؤون العامة وللتعامل مع المواطنين"، ويؤكد أن هذا
التنظيم بات له رجاله الذين تُحسب قوتهم بحجم ما يستطيعون تحريكه من قوى بالأمر
الإداري وبالتبعية الوظيفية، وبالموقف في جهاز إدارة الدولة والموقع القيادي فيه.
أمر حدا بالبعض أن يفسر ما آلت إليه الثورة في مصر وعمليات التغيير التي ارتبطت بها؛ بأنها كانت في ذلك الزمن لا ترقى لأن يطلق عليها وصف الثورة الكاملة لأنها لم تنجز بعد عملية التخلص من آليات الدولة العميقة، فضلا عن أجهزتها وهياكلها وتشكيلاتها الرسمية وغير الرسمية التي تظهر آثار نشاطاتها المدمرة والمعوقة في كل الأحداث المفصلية على الساحة المصرية. إن طريق التغيير يظل مليئا بأشواك الدولة العميقة
ويرصد التأثير المتبادل بين الجهاز البيروقراطي والمؤسسة العسكرية بقوله إن
"هذا التنظيم السياسي الذي حمل في خلايا تشكيله وتكوينه خصائص التنظيم
الإداري للدولة؛ هو ذاته الذي قاد ثورة واعتلى الحكم بعملية انقلابية داخل السلطة،
وأعاد صياغة الدولة وأجهزة إدارتها على صورته، فكانت الصلة بين التنظيم السياسي
وبين جهاز إدارة الدولة صلة استنساخ متبادل. نشأ التنظيم السياسي على صورة جهاز
الإدارة، ثم صاغ التنظيم والجهاز على صورته المعدلة". وهو أمر حدا بالبعض أن
يفسر ما آلت إليه الثورة في مصر وعمليات التغيير التي ارتبطت بها؛ بأنها كانت في
ذلك الزمن لا ترقى لأن يطلق عليها وصف الثورة الكاملة لأنها لم تنجز بعد عملية
التخلص من آليات الدولة العميقة، فضلا عن أجهزتها وهياكلها وتشكيلاتها الرسمية
وغير الرسمية التي تظهر آثار نشاطاتها المدمرة والمعوقة في كل الأحداث المفصلية
على الساحة المصرية. إن طريق التغيير يظل مليئا بأشواك الدولة العميقة ممثلة في
عسكرها ومؤسساتها البيروقراطية وأجهزتها الأمنية.
قد يقول البعض إنك في هذا الشأن لم تأت بجديد، وأن وصف هذه المؤسسة على هذا
النحو باعتبارها ركنا ركينا في الدولة العميقة المعوقة لكل تغيير استنتاجا تقليديا،
ذلك أن هذا هو عهد البيروقراطية والجهاز الإداري للدولة المصرية للقيام بهذه
المهمات منذ حركة يوليو وما بعدها، ولكن حقيقة الأمر أن الجديد في هذا الشأن هو
استغلال هذا الجهاز ضمن عملية تسييس كبرى في سياق قيامه كأداة من أدوات ذلك النظام
الفاشي المستبد، والذي يسمح بالفساد الصغير في مقابل تمرير الفساد الكبير الناشئ
من قوى متنفذة أو عصابة مهيمنة.
جهاز البيروقراطية يظل مع التهديد بالاستغناء عن كثير ممن يعمل فيه يقع في دائرة التهديد المباشر وغير المباشر لهذه القوى الوظيفية، فتتفانى في خدمة هذه المنظومة الاستبدادية وكأن لسان حالها أنها لا تستطيع أن تنفصم عن جهاز السلطة المستبد. فهذا اختطاف وتوظيف وتسييس لأجهزة الخدمة المدنية وتغول للأجهزة الأمنية عليها
وكذا فإن الجديد يعني أن جهاز البيروقراطية يظل مع التهديد بالاستغناء عن
كثير ممن يعمل فيه يقع في دائرة التهديد المباشر وغير المباشر لهذه القوى الوظيفية،
فتتفانى في خدمة هذه المنظومة الاستبدادية وكأن لسان حالها أنها لا تستطيع أن
تنفصم عن جهاز السلطة المستبد. فهذا اختطاف وتوظيف وتسييس لأجهزة الخدمة المدنية
وتغول للأجهزة الأمنية عليها لتمرير التوظيف والسيطرة بكل ما يلزم لذلك؛ من لوائح
وقوانين توظيف جديدة لا تنشغل إلا بتشكيل عبيد لا موظفين يقومون بالخدمة العامة
الحقيقية للمواطنين.
كل ذلك يشكل خطرا كبيرا ضمن هذه المؤسسة التي تقع تحت الاختطاف بالترغيب
أحيانا وبالترهيب أحايين أخرى، فحينما تكون الإدارة العامة في خدمة أصحاب السلطان
والطغيان لا في خدمة المواطن والأوطان ينتج ما نؤكد عليه من اختطاف يؤسس لقابليات
الاستبداد الذي يتمكن يوما بعد يوم؛ وينهض ضد أي محاولات تغيير حقيقية..
بيروقراطية في خدمة الطغيان.
twitter.com/Saif_abdelfatah