كتاب عربي 21

هل تهيأت ظروف إنهاء الانقلاب في تونس

نور الدين العلوي
تتفق الأطراف على رحيل الانقلاب لكنها لم تتوافق على حل جماعي- جيتي
تتفق الأطراف على رحيل الانقلاب لكنها لم تتوافق على حل جماعي- جيتي
نكتب معتمدين على أخبار متداولة في الساحة التونسية بشكل واسع لكنها لا ترقى إلى أخبار رسمية، ففي تونس يعتبر الحصول على مصدر مطلع جدير بالثقة من قبيل المعجزات، إنما نظهر ما نؤلف هنا لاختباره ووضعه في سياق الاحتمالات الممكنة وعلى المطلعين على الغيب التونسي تجاوز ما ننشر.

تروج أخبار كثيرة قابلناها ببعضها وخلصنا إلى أن سيناريو يعد للخروج من الوضع المتأزم؛ يكون لفرنسا وحزبها المحلي نصيب الأسد فيه كالعادة، غير أن "التخريجة" الفرنسية بالأيدي المحلية تعاني معيقات كبيرة بعضها محلي وكثيرها أو أثقلها خارجي.

المنطلق: الانقلاب صار مشكلة الجميع

سيناريو يعد للخروج من الوضع المتأزم؛ يكون لفرنسا وحزبها المحلي نصيب الأسد فيه كالعادة، غير أن "التخريجة" الفرنسية بالأيدي المحلية تعاني معيقات كبيرة بعضها محلي وكثيرها أو أثقلها خارجي

هذه حقيقة لا تحتاج مصادر مطلعة، الجميع في تونس متفقون على أن الانقلاب تحول إلى كارثة على البلد، بل إن أعلى الأصوات المطالبة برحيل الانقلاب هي الأصوات التي نظمت الانقلاب وبررته وناصرته، متهمة كل من خالفه بأنه "خوانجي عميل".

الموقف الجامع له حجج مختلفة: فالذين رفضوا الانقلاب منذ البداية كان مطلبهم الحفاظ على الديمقراطية ولو كانت مريضة، فأمراض الديمقراطية تعالج بالديمقراطية. وقد ثبتوا على موقفهم وتوسعوا في الشارع بما جعلهم أملا لكثير من الديمقراطيين وخاصة غير الاستئصاليين (باعتبار وجود حزب النهضة والإسلاميين عامة في هذا الجانب)، وعاد إليهم جمع من الضحايا متجاوزين القصف الإعلامي المركّز على أن هؤلاء هم جماعة 24، أي جماعة العشرية السوداء (لقد أعاد لهم فشل الانقلاب كثيرا من المصداقية).

والقسم الثاني أو العائد ضد الانقلاب هم من فقدوا أولا كل أمل في إشراكهم في السلطة معه، وقدر كثير منهم (باستثناء حركة الشعب القومية أو حركة الشبيحة) أن كل يوم إضافي مع الانقلاب يأكل من أرصدتهم وخاصة النقابة وحزامها السياسي (وجب أن نقول الأحزاب المتخفية داخل النقابة).

والقسم الثالث وهو المرجح هو طبقة رأس المال أو مالكو الدولة الفعليون، ممن وجدوا في إجراءات الانقلاب الاقتصادية خطرا على وجودهم، وخاصة بعد إصدار قانون مالية هو أقرب إلى قانون جباية خالص، فضلا على خطواته المعلنة في تفكيك المؤسسات العمومية التي كانت هذه الطبقة تبتزها وتستحوذ على ريعها بطرق مختلفة.

هذه الأطراف المتناقضة فيما بينها تناقضا وجوديا وجدت نفسها في موقع واحد أمام انقلاب يهدد وجودها، غير أنها لا تتفق على حل جماعي ففي الحل الجماعي يكمن خطر استعادة الديمقراطية والمؤسسات الشرعية وخاصة دستور 2014

هذه الأطراف المتناقضة فيما بينها تناقضا وجوديا وجدت نفسها في موقع واحد أمام انقلاب يهدد وجودها، غير أنها لا تتفق على حل جماعي ففي الحل الجماعي يكمن خطر استعادة الديمقراطية والمؤسسات الشرعية وخاصة دستور 2014.

حزب "نداء 2" بلا باجي

من أجل حل ينهي الانقلاب لكن لا يستعيد الديمقراطية المبنية على دستور 2014؛ ظهرت أول الأخبار (السيناريوهات). ففي أزمة 2013 التي أعقبت الاغتيالات تم توليف حزب من مكونات منظومة بن علي المالية والسياسية سمى حزب نداء تونس، ووجدت التوليفة في قدوم حزب الدستور الباجي قائد السبسي شخصية جامعة مجمعة ارتضاها هذا التجميع، وربحوا بها انتخابات 2014 وحكموا سنوات خمس متغولين على كل المؤسسات ومتهمين غيرهم بالتغول.

في 2023 لم تظهر هذه الشخصية، ولكن سيناريو التجميع على نفس القاعدة ما زال يعد بحل، لذلك يتم هذه الأيام اختبار أسماء كثيرة ذات ماض تجمعي اشتغلت مع بن علي، وتتم قراءة ردود الفعل الشعبية حولها، مثل اسم حاتم بن سالم والمنذر الزنايدي، ولم تبدُ ردود الفعل في ما قرأنا مشجعة، لذلك يتم اختبار اسم آخر نظيف من الماضي التجمعي وله جاذبية خاصة، هو السيد فاضل عبد الكافي.

هذا الاسم على جسد شاب ووسيم وهادئ لم يخض اشتباكات إعلامية محلية تحط من قدره، والأهم من ذلك هذا الاسم خريج مدارس فرنسية ويتكلم الفرنسية بطلاقة (ولا أعلم إن كان يحمل الجنسية الفرنسية كأغلب خريج الجامعات الفرنسية)، وقد كان عنصرا رئيسيا في حزب آفاق، وهو حزب فرنسي بامتياز ظهر في أول الثورة وخف بريقه بعد اكتشاف انتماء مؤسسته آمنة المنيف إلى محفل ماسوني فرنسي، لكن ظل حيّا يستحضر في مثل هذه الملمات.

والمدخل إلى تسويق السيد عبد الكافي هو خبرته الاقتصادية التي لم تُختبر فعلا في الحكم، إنما نتابع كيف ينفخ فيها إعلام منظومة فلول النداء الباقية، جاعلا من الأزمة التونسية أزمة اقتصادية لا سياسية؛ يتم حلها بخبير اقتصادي أو تكنوقراط متنور.

وفي سياق التسويق أيضا خفف السيد الكافي من حدة تصريحات قديمة ذات طبيعة استئصالية، لبدء صناعة وجه ديمقراطي متسامح يرفع الصوت ضد الانقلاب فقط، مع احتمال مسرحية اعتقال لصناعة بطولة في أمد قصير، تكون رصيدا إضافيا للداخل الطيب الغبي. فالخارج الفرنسي مضمون تقريبا، إن لم يكن هو من خطط سيناريو التنظيف والاستعادة والتمكين للسيد عبد الكافي.

كل ما في الفاضل عبد الكافي يجعله "أجمل" من الباجي، فما حظوظ نجاح الوجه الجديد؟

سيناريوهات لا تنتظر المنقلب
الحساب مع النهضة له ثمن مكلف، فثمن موافقة الحزب على مثل هذا السيناريو هو حصوله على نصيب من الحكم، وخاصة إخراجه من وضع الاستهداف الأبدي وإنهاء حديث الاستئصال الذي تقوده الآلة الإعلامية الممولة فرنسيا. فالحزب ظل قائما يحرك الشارع وكل انتظارات محوه باءت بالفشل، بل زادته قوة في الأرض، ولهذا ثمن يفسد حساء فرنسا التي دأبت على التمتع به في تونس

ما ذكرناه أعلاه ينطلق من موقف جذري إزاء الانقلاب ولا يعمل على الاقتراح على الرئيس تغيير حكومته، فللرئيس اختيارات أخرى وحكومته تعيش صراعاتها الداخلية ولا تنظر خارجها، لكن جذرية هذا الموقف مرهونة بأمر يقع خارجها، هو قبول حزب النهضة وجبهة الخلاص وكل معارضي الانقلاب بعقل ديمقراطي؛ بالحل القائم حول عبد الكافي. فضمان موافقة حزب النهضة خاصة يعني المرور إلى التنفيذ، وفي النية المضمرة تقديم حل سياسي جاهز للقوة الصلبة لترفع يدها عن الانقلاب، وهي العقبة الكأداء الباقية.

غير أن الحساب مع النهضة له ثمن مكلف، فثمن موافقة الحزب على مثل هذا السيناريو هو حصوله على نصيب من الحكم، وخاصة إخراجه من وضع الاستهداف الأبدي وإنهاء حديث الاستئصال الذي تقوده الآلة الإعلامية الممولة فرنسيا. فالحزب ظل قائما يحرك الشارع وكل انتظارات محوه باءت بالفشل، بل زادته قوة في الأرض، ولهذا ثمن يفسد حساء فرنسا التي دأبت على التمتع به في تونس (حبذا حل فرنسي بوجوه تونسية ليس منها الإسلاميون)، لكن لا يقوم هذا الحل إلا بتزكية من شيخ النهضة الذي يتمتع بوضع المراقب غير العجول على الحل، وقد يغالي في ثمن التزكية.

هل قوة النهضة في هذا المشهد حقيقية أو متوهمة؟ للنهضة فضلا عن تماسكها الداخلي وقيادتها لمعارضة الانقلاب ورقة قوة خارجية، أي لها أصدقاء يرغبون في أن تكون شريكة في ما بعد الانقلاب، وهم جزء من السلطة الجزائرية يرى في النهضة عنصر استقرار داخلي في تونس، ولها حلفاؤها في الإدارة الأمريكية التي لا تريد تسليم تونس مرة أخرى للفرنسيين بلا أدنى دور أمريكي، ولها طبعا وعود أصدقائها الأتراك والقطريين المالية التي يمكنها التلويح بها في مرحلة توزيع الحصص والوعود. وهؤلاء الأصدقاء لا يحملون فرنسا في قلوبهم، بحيث يهمهم أن يكون لهم صديق شريك في الحل وهو ما يرفع ثمن التزكية.

في ظل الصراعات الداخلية خاصة حول موقع الإسلاميين فيما بعد الانقلاب وهي العقدة (التي لا يصرح بها علنا)، فإن الانقلاب يمكنه تعديل حكومته والتمتع بوضع المرسل من الإرادة الإلهية حتى تلتهم الأزمة المزيد من القدرات المحلية، وتدفع بسطاء الناس إلى أخذ زمام المبادرة ضد الانقلاب وضد النخبة التي لم تعِ بعد أن الحل لا يكون إلا بالديمقراطية التي تتسع للجميع دون رهن البلد لأية إرادة خارجية

ننتظر ونرى

أذكر القارئ بأني أؤلف نصا بناء على أخبار متداولة في ساحة سياسية مضطربة وتبحث عن حل، ولكن كثيرا من الأوراق ليست بيدها، وإنما يغلب عليها تنافس غير ديمقراطي يخفي أنيابه الاستئصالية، وهذا ما يجعل الحل التونسي خارجيا أولا، ويجعل الفاعلين مهما تظاهروا بالقوة والوطنية أدوات تحرك من الخارج.

في ظل الصراعات الداخلية خاصة حول موقع الإسلاميين فيما بعد الانقلاب وهي العقدة (التي لا يصرح بها علنا)، فإن الانقلاب يمكنه تعديل حكومته والتمتع بوضع المرسل من الإرادة الإلهية حتى تلتهم الأزمة المزيد من القدرات المحلية، وتدفع بسطاء الناس إلى أخذ زمام المبادرة ضد الانقلاب وضد النخبة التي لم تعِ بعد أن الحل لا يكون إلا بالديمقراطية التي تتسع للجميع دون رهن البلد لأية إرادة خارجية. ولذلك دعونا في غير موضع إلى المطاولة، ففيها شر ظاهر وخير باطن هو نسف المقاولين السياسيين وفتح الطريق لنخب وطنية منعت من الكلام والفعل النخبَ التي وعت أن بناء الديمقراطية مرهون باستقلال القرار الوطني.
التعليقات (1)
متابع
الثلاثاء، 10-01-2023 10:58 م
رائع بكل المقاييس.. من أفضل ما قرأت اليوم.. أرجو مزيدا من الكشف والتحليل.. لك تقديري واحترامي أستاذ نور الدين العلوي.. بورك قلمك القادح.