فكرة أن العالم أجمع هو الخاسر بانحطاط وتراجع
المسلمين وليس فقط المسلمين،
ربما لم تطرأ على بال بشر قبل أن تطرأ ربما لأول مرة على بال شاب مسلم هندي، يدعى
أبو الحسن الندوي في أوائل
الأربعينات من القرن الماضي. الفكرة نفسها كانت آنذاك غريبة، وللطرافة أو الحسرة لم
تزل كذلك حتى يوم الناس هذا. فالقريب قبل البعيد سيستهزئ قطعاً من طرح الفكرة من
الأساس، فكيف لقوم حاضرهم كما ماضيهم القريب، مليء بالمشاكل والأزمات الهائلة،
مثقلين دوماً بالاستعمار الفعلي أو المقنع، مشتتين ومنقسمين ومتصارعين بشتى النزاعات
الحدودية والعرقية والمذهبية، أن يكون انحطاطهم خسارة لأحدٍ غيرهم من أقوام، يبدون
للعيان متقدمين ومتحضرين ومنتصرين، متسلحين بالعلم كما هو مترجم باختراعاتهم
وابتكاراتهم، ومستقوين بالرصيد الاقتصادي والمالي الضخم كما تشهد أرصدتهم البنكية وبورصاتهم
العالمية، ومدعومين بالقوة الناعمة السائدة بصحافتهم وإعلامهم وثقافتهم، وليس آخراً
مدججين بالسلاح الفتاك أيضاً إن دعتهم الحاجة لاستعماله.
أهي مزحة إذن، أن نسأل هكذا سؤال؛ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
فالإجابة ينبغي أن تكون بديهية؛ بالتأكيد لا شيء. لكن وبعد مرور ثمانين عاماً
تقريباً من طرح هذا السؤال لأول مرة، وبعد أن نستعرض ما شهده العالم خاصة في
العقود الثمانية الفائتة، سنتأكد من عدم صحة تلك الإجابة.
أهي مزحة إذن، أن نسأل هكذا سؤال؛ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ فالإجابة ينبغي أن تكون بديهية؛ بالتأكيد لا شيء. لكن وبعد مرور ثمانين عاماً تقريباً من طرح هذا السؤال لأول مرة، وبعد أن نستعرض ما شهده العالم خاصة في العقود الثمانية الفائتة، سنتأكد من عدم صحة تلك الإجابة
يجب التنويه أن ما طرحه السيد أبو الحسن الندوي، والذي أكرر طرحه للمرة
الثانية، لم يكن دفاعاً عن مجموعة أشخاص ينتمون لعقيدة ما، ينالهم ما ينالهم من
التقصير أو حتى البعد التام عن جوهر ما يعتقدونه. بل كان دفاعاً عن المسلم الحق
الذي يعرف جوهر وقيمة ما يؤمن به، ويمارس ما يعتقده، ويثبت على مبادئه مهما اشتدت
الظروف، فقط حينها سيعرف العالم ماذا خسر حقاً إن غابت تلك النوعية من البشر عن
المشهد، ليس حباً فيهم بالمقام الأول، بقدر اشتياق العالم وتلهفه لمن يقود الدفة
باتزان وعدل وأمان ومساواة أكثر، لم يجدها فيمن سواه.
لكن قبل أن نستعرض مشاهد من التاريخ القديم والحديث، تاه فيها الإنسان،
تماماً كما يبدو تائها اليوم، بين الواقع الحياتي، والمُثل العليا التي تمكن في
فترات قصيرة فقط أن يلتزم بها، ينبغي أن نحدد تعاريف ومفاهيم أساسية، إن لم يتفق
معها أغلب البشر، فلن يكون الحديث عن المكسب والخسارة لانحطاط فئة أو أخرى من
البشر ذات جدوى.
المفهوم الأول الذي ينبغي أن نتفق عليه هو أن الله لم يخلق الإنسان عبثا أو
تعذيباً أو ترفيهاً له، كما لم ينزله على هذه الأرض لتركه وحيداً مع نفسه
وهواه وإغواء الشيطان، دون إرشاد أو إنذار أو تحذير. لذا ومنذ القدم، تعاقب على
البشرية أنبياء ورسل يحملون معهم معونة السماء الإلهية لهداية الناس إلى طريق الحق،
لعلمه سبحانه وتعالى أن الرسالات السماوية قد تُنسى وقد تُحرف وقد تُستبدل بغيرها
من الفلسفات والأفكار البشرية، التي لم تفلح قط في تكوين مجتمعات تتمكن من إرساء
العدل في الكون، ومن خلق التوازن المنشود بين الخير والشر بما يصب في صالح أفرادها
أياً كانت قدراتهم الفكرية، وطبقاتهم الاجتماعية، وحالتهم الاقتصادية.
المفهوم الأول الذي ينبغي أن نتفق عليه هو أن الله لم يخلق الإنسان عبثا أو تعذيباً أو ترفيهاً له، كما لم ينزله على هذه الأرض لتركه وحيداً مع نفسه وهواه وإغواء الشيطان، دون إرشاد أو إنذار أو تحذير
نعم شهدنا صعود حضارات وازدهار أمم عظيمة على مر التاريخ، نما في بعضها
العمران بدرجة مذهلة، وتطور في بعضها العلم بشكل مدهش، وارتقت في بعضها الحكمة إلى
حد كبير، لكن لم يسجل التاريخ على الإطلاق حقبة سادت فيها القيم الإنسانية الحضارية
من عدل ومساواة ووسطية وتسامح وتكافل ورحمة إلا في حقب قصيرة جداً، لم يطل بقاؤها
دون انحطاط أكثر من بضع مئات من السنين على أكثر تقدير، وهي فقط الحقب التي ساد
فيها ولو نسبياً حكم الله وهو خير الحاكمين. فقد تميزت تلك الحقب عن غيرها بوجود مجتمعات
لا تطبق دستوراً معيناً فحسب، فهذا بديهي، خاصة عندما نتحدث عن دول منظمة ومتحضرة،
وليس جماعات بشرية بدائية، بل تتميز بما لم يتكرر في قوم قبلهم ولا بعدهم، ألا وهي
تقوى الله.
فهناك شيء يبدو أن لا صلاح ولا دوام لدولة عادلة بدونه، ألا وهو حرص أفراد
المجتمع على استحضار جهة رقابية عليا في جميع أعمالهم وتعاملاتهم، جهة منزهة عن الفساد
والرشوة، عن الظلم والاستبداد، عن الغفلة والإهمال، جهة لا تتغير بصعود حاكم أو زواله،
ولا تتبدل بعلو ثروة أو ضياعها، جهة لا تنحاز ولا تفرق مطلقاً بين عرق أو لون أو
جنس. والآن، هل حدث وأن ادعت جهة رقابية بشرية قديماً أو حديثاً امتلاكها كل تلك
الخصائص؟
الكوكب الذي نعيش فيه، يشكل نظاماً فيزيائياً مغلقاً، أمده الله بما يحتاج إليه البشر منذ نزول آدم وحتى قيام الساعة، بثروات طبيعية ومقومات للحياة متوازنة فيما بينها بدقة واقتدار، وأي خلل في هذا التوازن، على الأغلب بفعل البشر، يخلق اختلالاً جسيماً، من المستحيل تعويضه من خارج الكوكب
المفهوم الثاني الذي يجب أن نتفق عليه هو أن الكوكب الذي نعيش فيه، يشكل نظاماً
فيزيائياً مغلقاً، أمده الله بما يحتاج إليه البشر منذ نزول آدم وحتى قيام الساعة،
بثروات طبيعية ومقومات للحياة متوازنة فيما بينها بدقة واقتدار، وأي خلل في هذا
التوازن، على الأغلب بفعل البشر، يخلق اختلالاً جسيماً، من المستحيل تعويضه من
خارج الكوكب.
على سبيل المثال، إن قل أو نفد غاز الأوكسجين بسبب اختلال دورته الطبيعية عبر
محو المساحات الخضراء، فلن نخلق حتى بتطورنا الحالي أوكسجينا بديلا، أو سنتمكن من
استيراده من خارج النظام البيئي المحكم للأرض. وإن ارتفعت درجة حرارة الأرض بسبب
النشاط الصناعي المفرط، وأعقبت ذلك نتائج بيئية وصحية ووجودية كارثية، فلن نتمكن مثلاً
من صنع مبرّد عملاق يتمكن من إعادة الوضع لما كان عليه. هذا المفهوم هام للغاية،
لأنه ربما يوحد جميع البشر من ذوي العقل، على تعريف ماهية وحدود أدوارنا وعواقب
أفعالنا في هذا الكون، بغض النظر عن الدين والعرق، أو المستوى الثقافي أو
الاجتماعي أو الاقتصادي.
المفهوم الثالث والأخير، هو أن السؤال المطروح؛ ماذا خسر العالم بانحطاط
المسلمين، لا يحمل في طياته دعوة لاعتناقه من قبل العالم أجمع، كما لا يمثل لوما
أو إنقاصا من قيمة من لا يعتنقه، أو من اعتنقه ثم لم يلتزم به. بل يمثل فقط دعوة لسماع
ماذا في جعبة الإسلام من أفكار ومبادئ وقوانين، يحتاجها العالم الآن وبشدة لوقف
نزيف الخسائر الهائلة للجميع على شتى الأصعدة، وعلى رأسها الخسائر الإنسانية،
المتمثلة في الفجوة المخيفة بين الغني والفقير، بين القوي والضعيف، بين الأبيض
والملون.. والخسائر الاقتصادية، المتمثلة في إهدار الأموال الطائلة على ديون
تعجيزية لا تفيد الاقتصاد العالمي بقدر ما تثقله بخسارة مستهلكين ومنتجين محتملين،
وليس آخرها الخسائر البيئية المتمثلة باختلال التوازن البيئي والحيوي بشكل يقترب
من نقطة اللا عودة، والتي تصب بالنهاية في فقدان البشر -كل البشر- مقومات الحياة
اللازمة لاستمرارها كما عهدناها لآلاف السنين.
السؤال المطروح؛ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لا يحمل في طياته دعوة لاعتناقه من قبل العالم أجمع، كما لا يمثل لوما أو إنقاصا من قيمة من لا يعتنقه، أو من اعتنقه ثم لم يلتزم به. بل يمثل فقط دعوة لسماع ماذا في جعبة الإسلام من أفكار ومبادئ وقوانين
لنستفتح معاً بالجزء القادم من هذه السلسلة، نبذات سريعة للمراحل المتعاقبة
في تاريخنا البشري، نحاول بها تلخيص محاولات الجنس البشري المتعاقبة للعيش والبقاء
والتطور والازدهار في هذا الكون، وما واجهه من مصاعب وعقبات؛ فشل في التغلب عليها
في كثير من الأحيان ونجح في بعضها فقط.
وسنستعرض شهادات المؤرخين الموثوقين، في رصد قصص من سبقونا من الأمم، لنعرف
كيف ازدهرت الحضارات وكيف انطفأت، ونضيف لتلك الشهادات قصص القرآن، التي نزلت
بالتأكيد للاعتبار والتعلم والإدراك بأن هناك قواعد وأصول حتمية أخلاقية في
الأساس، إن انتهكت فلن يدوم معها الاستقرار والأمان والرخاء اللازم لأداء الإنسان
دوره المرسوم له في الأرض ألا وهو إعمارها.
وسنتطرق إلى عالمنا اليوم، فهو الجدير بالإصلاح إن اقتنعنا بأننا انتهكنا
ولا زلنا جميع الخطوط الحمراء التي ستفضي بنا لأزمات ومشاكل أكبر في المستقبل
القريب. وسنكتشف معاً في النهاية أن هناك دائماً مشتركات تجمع بين أسباب العلو
وأسباب الانحطاط لجميع الأمم والحضارات، واللافت أنها لم تشذ يوماً عن القاعدة حتى
يومنا هذا، وربما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
[email protected]