كتاب عربي 21

الجدارة والعسكرة.. مفاهيم ملتبسة (11)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من الأهمية بمكان أن نتعرف على أن مفهوم الجدارة هو من المفاهيم الوظيفية المهمة التي تتعلق بأهلية القدرات، وتحقق الإمكانات، وامتلاك المهارات. كذلك من المهم وفق هذا المدخل الذي استحق مسمى "مدخل الجدارة" أن نؤكد أن الجدارة الوظيفية تعني أداء العمل الصحيح، وبطريقة صحيحة، ومن قبل الشخص الصحيح.

ومن هنا فإن الجدارة كمفهوم علمي وإداري ووظيفي ومهني تستند أساسا على تحديد وتوصيف الدور الذي يشير إلى منظومة من المهارات والمعارف والإمكانات المطلوبة لأداء هذا الدور. وغالبا ما تقيم تلك الجدارة بمعايير كثيرة؛ منها معايير معرفية وإدراكية، ومعايير أخلاقية ومهنية، ومعايير ذات طبيعة سلوكية. وبذلك فإن منظومة الجدارة بما تشكله من مجموعة معايير مختلفة ومتسقة تلحظ مسألة الجدارة بشكل قَبْلي من حيث المؤهلات، وبشكل بعدي من حيث الإنجاز والأداء والكفاءة والفاعلية.

هذا المعنى يمكن أن تنهض به الأمم في إطار تلك المقولة الشهيرة "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وتعبيرا وترجمة إلى أن "يوسد الأمر إلى أهله واللائقين به والمؤدين له على أكمل وجه". ومن ثم فالحديث النبوي يشير إلى المعاني الخاصة بالأمم التي توسد أمورها إلى غير أهلها، فإن على الجميع أن ينتظر نهاية الدنيا وقيام القيامة (إذ وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
مفهوم الجدارة والمدخل المتعلق به ليس أمرا تقديريا ولا أمرا يتعلق بالرغبات أو بالأهواء، ولكنه في حقيقة أمرة مدخل علمي محدد، يستند إلى كل المواصفات والمعايير من خلال امتلاك لذخيرة فنية وسلوكية، وهي تعد بهذا الاعتبار أفضل الوسائل لتوقع النجاح المهني

ومن ثم فإن مفهوم الجدارة والمدخل المتعلق به ليس أمرا تقديريا ولا أمرا يتعلق بالرغبات أو بالأهواء، ولكنه في حقيقة أمرة مدخل علمي محدد، يستند إلى كل المواصفات والمعايير من خلال امتلاك لذخيرة فنية وسلوكية، وهي تعد بهذا الاعتبار أفضل الوسائل لتوقع النجاح المهني، وهي أيضا بهذا الاعتبار مجموعة من السلوكيات التي تقوم على الاكتساب ومتطلبات أداء العمل في الأنشطة المختلفة.

فحينما تُغتصب هذه الكلمات في جوهرها، وهذه المداخل في منهجها ومعاييرها فإن الأمر يعبر عن حالة من العصف بتلك المعايير في سياق تحكم يتعلق بالسلطة والتسلط. وهو في النهاية تعبير عن منظومة من الأفعال والسلوكيات والقرارات التي تتعلق بحالة الغشم التي ترتبط بصاحب القرار؛ الذي يستند في حقيقة الأمر إلى امتلاكه سلطة القرار في ذلك الشأن، فيسيء استخدام هذه السلطة من كل طريق، ويوسد الأمر إلى غير أهله، لا لشيء سوى أنه يعتقد أن هؤلاء الذين يماثلونه أو يمثلونه هم الأكثر جدارة للقيام بكافة المهام، حتى وإن لم يكونوا مؤهلين لها أو قادرين على القيام بها.

يبدو ذلك جليا حينما نشير إلى أحوال أتت بعد الثورة والانقلاب، لتعبر عن اختلال تلك المعايير التي تتعلق بحقيقة الجدارة ومعايير الكفاءة وأصول الاستحقاق.
الأمر انقلب من بعد للحديث عن فئات بعينها وشخصنة المسألة، وتحدث البعض عن أن المؤسسة العسكرية بما تملكه من قدرة ومن دور تاريخي هي التي تعد فوق الدستور

وفي هذا المقام أتذكر أننا دعينا مرة حتى نحدد ما يمكن تسميته المبادئ فوق الدستورية، ورغم أن الأمر يتعلق -كما تشير تلك الكلمة- إلى مساحات المبادئ، فإن الأمر انتقل إلى مساحات وساحات أخرى في النقاش بدلا من الحديث عن الأصول فوق الدستورية؛ التي تتعلق بمبادئ الحفاظ على مدنية الدولة، والحفاظ على مكاسب الثورة ضمن تلك الحالة الثورية. فالأمر انقلب من بعد للحديث عن فئات بعينها وشخصنة المسألة، وتحدث البعض عن أن المؤسسة العسكرية بما تملكه من قدرة ومن دور تاريخي هي التي تعد فوق الدستور.

وهنا شعرت بمدى الورطة التي نحن فيها حينما يسود التفكير المعسكر وكأننا ندير دولة العسكر والمعسكر، وبرز مفهوم العسكرة بأوضح معانيه ليعد في ذاته معيارا، وهذا أخطر ما يكون على مدنية الدولة، وعلى ممارسة السياسة، بل وممارسة الحياة الاجتماعية المدنية العادية.

تذكرت أيضا في هذا المقام هذا الضابط العسكري الذي تصدر المشهد في يوم افتتاح العام الدراسي، والذي ألقى خطبة عصماء أشار فيها إلى ما أسماه حينذاك "الشرعية العسكرية"، وكأنه يستبعد مفهوم الشرعيات الاعتيادية التي تتعلق بإدارة الحياة الاجتماعية والسياسية من شرعية سياسية، وكذلك استبعد وبشكل قاطع تلك الشرعية التي تسمى الشرعية الثورية التي كانت ترتبط بالحالة الثورية آنذاك.

الأمر -للأسف الشديد- كان يدار ضمن عقلية عسكرية أرادت عسكرة المجتمع بأسره، ليس فقط في المؤسسات الاعتيادية، ولكن أرادت أن تحف ذلك بتشريعات معسكرة وقرارات مجيشة تقوم على قاعدة أن العسكري هو صاحب الجدارة الأوحد، وهو من يحدد معايير الجدارة.

كان ذلك أمرا خطيرا على المجتمع، وكان إيذانا باغتصاب السياسة ووأدها بلا رحمة ضمن مسارات رأيناها بأعيننا من بعد ذلك؛ تؤكد أن العسكر قد سيطروا على كل أمر ليس فقط الشأن الذي يتعلق بامتلاك السلطة المباشرة على الجيش أو المؤسسة العسكرية، ولكن الأمر تعلق بالسيطرة على كافة مساحات المجتمع، وساحة القوانين والتشريعات، وصار ذلك استراتيجية ترتبط بسياسات شديدة الخطورة تمر علينا في أشكال ومشاهد مختلفة وتؤسس لمعنى المجتمع المعسكر والقبول به.
أخطر من عسكرة المجتمع هو القابلية لتلك العسكرة من قبل فئات مدنية صارت تتحدث عن هذا الأمر وتمارسه ضمن حياتنا اليومية بأشكالها المختلفة والمتنوعة، فصار الأمر يتعلق بأن الفشل مدني، وأن النجاح بطبيعته عسكري، وأن المنقذ هو العسكر في كل حال وفي كل أزمة

إلا أن أخطر من عسكرة المجتمع هو القابلية لتلك العسكرة من قبل فئات مدنية صارت تتحدث عن هذا الأمر وتمارسه ضمن حياتنا اليومية بأشكالها المختلفة والمتنوعة، فصار الأمر يتعلق بأن الفشل مدني، وأن النجاح بطبيعته عسكري، وأن المنقذ هو العسكر في كل حال وفي كل أزمة، وإذا فشل عسكري التمست له كل المبررات والمسوغات، واستبدل بعسكري آخر، تحت شعار أن "العسكري لا يفشل". ويؤكد ذلك تصريح المنقلب الشهير: "فين المدني اللي هنا".

طرأ ذلك على ذهني من خلال مشهدين خطيرين؛ المشهد الأول ارتبط بقرار غريب وعجيب يعتبر أن الحاصل على بكالوريوس العلوم العسكرية هو حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصادية والاحصائية؛ هكذا جملة. وهذا القرار إنما يعبر في حقيقة الأمر عن الاستهانة الكبيرة بالمجتمع ومعاييره المهنية والإدارية والوظيفية التي صار العسكر يغتصبونها من جملة ما اغتصبوه من حياتنا المدنية. والأمر هنا يتعلق بقرار نشر في الجريدة الرسمية لا يعقب عليه أحد، حتى من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حماة للحياة المدنية وانطلقوا "يولولون" يوما ما على ما أسموه " أخونة الدولة"، واليوم يسكتون عن "عسكرة المجتمع والدولة معا".
كل ذلك يمكن أن نسكنه في مجتمع العسكر الذي صار هو الحاكم والمتحكم في شأن الدولة والمجتمع ومهيمنا على عموم الحياة المدنية ومؤسساتها، إلا أنهم في هذا السياق نالوا أيضا حصانة تمتد إلى أهليهم وممتلكاتهم وأفعالهم سواء كانوا في الخدمة أو من بعدها، ليشكل ذلك عسكرة الحياة بأسرها

إن هذا الاغتصاب البادي لحياتنا المدنية والمعايير الإدارية المتعارف عليها ومعايير الجدارة والاستحقاق بما فيه من حالة الاستخفاف الشديد؛ يشكل مبادئ أساسية صارت تداس بـ"بيادة العسكر ومن غير تعقيب.

أما المشهد الثاني فقد طالعتنا الصحف بقرار آخر بتولية رئيس القضاء العسكري كنائب لرئيس المحكمة الدستورية، وهذا أخطر ما يكون، ويفتح الباب واسعا إلى أن يكون هذا العسكري وأمثاله رئيسا للمحكمة الدستورية. صحيح أن المدني منهم قام بدور مُعسكر، إلا أنه يبدو أن هؤلاء الذين يؤمنون بأن الدولة معسكر لا يقبلون إلا بأن تكون هذه الوظائف المدنية والدستورية تحت أيديهم مباشرة.

كل ذلك يمكن أن نسكنه في مجتمع العسكر الذي صار هو الحاكم والمتحكم في شأن الدولة والمجتمع ومهيمنا على عموم الحياة المدنية ومؤسساتها، إلا أنهم في هذا السياق نالوا أيضا حصانة تمتد إلى أهليهم وممتلكاتهم وأفعالهم سواء كانوا في الخدمة أو من بعدها، ليشكل ذلك عسكرة الحياة بأسرها. الأمر هنا في الانقلاب والاغتصاب لكافة المعايير التي يتعارف عليها الناس في إدارة المجتمعات المدنية، وفي تحديد من هو الأنسب لوظيفة ما بما يملكه من جدارة مهنية أو وظيفية.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)