انطلقت في مصر مؤخرات فعاليات تحمل زخما إعلاميا كبيرا تحت مسمى مؤتمر
الحوار الوطني، من خلال هيئة حكومية تتولى الإعداد والتنسيق وإدارة هذا الحوار. وفي الجلسة الافتتاحية أعلن رئيس اللجنة التنسيقية للحوار عن التمسك بعدد من الاستثناءات التي تمنع جميع الاتجاهات المجتمعية والسياسية من المشاركة، وكان من أبرزها أهمية الاعتراف بدستور 2014.
وتم الإعلان عن دعوة
النقابات المهنية والعمالية للمشاركة في جلسات استماع خاصة بهم، مما دفع النقابات لصياغة مطالبها وبيان هموم أعضائها، وهنا جاء دور نقابة
الأطباء في تقديم ورقة عمل تم تلخيصها في عدة بنود تساهم في رفع شأن المهنة وتحقيق رغبات الأعضاء في نيل حقوقهم المشروعة.
واشتملت محاور تطوير المنظومة الصحية التي عرضتها نقابة أطباء مصر خلال رؤيتها في الحوار الوطني على محورين أساسيين، هما: العامل البشري والعامل المادي، حيث استعرضت النقابة خلال محور العامل البشري مشكلة العجز الشديد في عدد الأطباء الذي وصل إلى وجود 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، بينما النسبة العالمية 23 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن، ووجود مؤشرات تشير إلى تفاقم هذا العجز، منها استقالة قرابة 16 ألف طبيباً من العمل الحكومي خلال سنوات الخمس الأخيرة.
تم الإعلان عن دعوة النقابات المهنية والعمالية للمشاركة في جلسات استماع خاصة بهم، مما دفع النقابات لصياغة مطالبها وبيان هموم أعضائها، وهنا جاء دور نقابة الأطباء في تقديم ورقة عمل تم تلخيصها في عدة بنود تساهم في رفع شأن المهنة وتحقيق رغبات الأعضاء في نيل حقوقهم المشروعة
وعزت النقابة هذا العجز إلى عدة أسباب، منها تدني الأجور والمعاشات، وعدم الأمان الوظيفي والمهني، والتحفيز المجتمعي السلبي الناتج من تشويه الأطباء إعلامياً من بعض وسائل الإعلام، وافتقاد الرعاية الصحية والاجتماعية، والتعسف وفرض قيود وتعدد الجهات في رقابة الأطباء وإصدار تراخيص المنشآت الطبية الخاصة.
وعرضت نقابة أطباء مصر خلال المحور الثاني، وهو العامل المادي، أهم أوجه القصور فيه، وهي افتقاد معظم المستشفيات لنظام صيانة روتيني ودوري، والفقر في أدوات التدريب للأطقم الطبية، ومعوقات حصول الأطباء على الدراسات العليا، وعدم وجود تصنيف مهني للأطباء يحدد الاختصاصات والواجبات والتدخلات الطبية، وعدم اشتمال معظم المستشفيات على استراحات مناسبة للأطقم الطبية، وكذلك سوء الوجبات الغذائية، وافتقار بعض كليات الطب، وبالأخص الخاصة والأهلية، إلى المعايير الضامنة لجودة التعليم الطبي وكفاءته.
واقترحت نقابة أطباء مصر في رؤيتها المقدمة للحوار الوطني؛ آليات عمل بعقد ورش مناقشة بحضور جميع الجهات المعنية، تخرج بتوصيات تُنفَّذ تبعاً لجدول زمني محدد، سواء بتشريع قوانين حاكمة أو قرارات تنفيذية..
زيادة الهجرة للخارج هي التوصيف الحقيقي لمشكلة نقص الأطباء:
جاء عرض النقابة صادما في إحصائيات عدم توفر العامل البشرى من حيث أعداد الأطباء القائمين على رأس العمل داخل المؤسسات
الصحة بمصر، ولكن جاء التوصيف غير دقيق، حيث أشارت النقابة إلى وجود عجز شديد في الأطباء، ولكن الحقيقة هي وجود زيادة مطردة في الهجرة للخارج، وذلك لأن العدد الإجمالي للأطباء المسجلين في النقابة يفوق النسبة العالمية إلى عدد السكان بفرض تواجدهم داخل مصر، ولكن المشكلة هي هجرة 67 في المئة من الأطباء للخارج، بالإضافة إلى كثرة أعداد الاستقالات من الحكومة في الفترة الأخيرة.
جاء عرض النقابة صادما في إحصائيات عدم توفر العامل البشرى من حيث أعداد الأطباء القائمين على رأس العمل داخل المؤسسات الصحة بمصر، ولكن جاء التوصيف غير دقيق، حيث أشارت النقابة إلى وجود عجز شديد في الأطباء، ولكن الحقيقة هي وجود زيادة مطردة في الهجرة للخارج
وحل المشكلة لن يكون بزيادة الخريجين لأن ذلك يعنى المزيد من الهجرة للخارج، ولكن الحل يكون بإزالة أسباب المشكلة والتي وردت بالفعل في بيان النقابة، ولكن دون هذا التوصيف الدقيق لطبيعة المشكلة، كما أنه توجد جوانب أخرى للمشكلة لم تعرضها النقابة ومنها النقص النوعي في عدد من التخصصات الهامة، مثل الرعاية الحرجة والتخدير وطب الطوارئ. وتلك قضية تحتاج المزيد من الدراسة وتوفير سبل حلها علميا.
بيان نقابة الأطباء تحول إلى مطالب فئوية:
في عرض المحور المادي ومن حيث الشكل، فإن بيان النقابة جاء في إطار عرض عدد من الأمور والتي تبدو وكأنها مجرد مطالب فئوية، خاصة وأن البيان قد أشار إلى آليات عقد ورش عمل وإصدار توصيات، وكان الأحرى بالنقابة أن تعود بالأمر إلى قاعدة صلبة وغير قابل للجدال؛ من حيث الالتزام بقرار اللجنة التنسيقية في ضرورة الاعتراف بدستور 2014، وهو ما أقرت به النقابة فعلا ولكنها لم تحاول الاستثمار الفعلي والمهني لهذا الإقرار السياسي بحيث تخدم المهنة وتلبي احتياجات الطبيب والمريض سواء بسواء.
ينص دستور 2014 في مادة (18) على ضرورة توفير موازنة لوزارة الصحة لا تقل عن 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي بداية من عام 2014، وتزيد تدريجيا حتى تصل إلى المستوى العالمي. وحيث أنه قد مضت ثماني سنوات على إصدار الدستور، فإن موازنة الصحة لهذا العام (2022/2023) يجب أن تكون في حدود النسبة العالمية التي حددتها منظمة الصحة العالمية، وهي 7-10 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لكل دولة، وليست 1.4 في المئة كما ورد بتقرير الموازنة العامة لمصر هذا العام.
وتوفير هذا الاستحقاق الدستوري في موازنة وزارة الصحة كفيل في حد ذاته بتحقيق جميع مطالب النهوض بالرعاية الصحية الحكومية وتلبية جميع اجتياحات الأطباء من الأجور، وتطوير البنية التحتية وتوفير جميع متطلبات تقديم خدمة صحية بجودة عالية ووفرة شاملة.
ونفس المادة رقم 18 تؤكد على ضرورة وجود تأمين صحي شامل لجميع الأمراض يغطى كل المصريين، بما يضمن صحة جميع المواطنين ومن بينهم الأطباء بالطبع. وجاء في نهاية نفس المادة من دستور 2014 النص الصريح على أن "تلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي. وتخضع جميع المنشآت الصحية، والمنتجات والمواد، ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلي في خدمات الرعاية الصحية وفقاً للقانون، بما يعنى تحقيق جميع طلبات نقابة الأطباء في حالة تفعيل الدستور على أرض الواقع".
حيث أن نقابة الأطباء هي منظمة مجتمع مدني تهدف إلى تحقيق مصالح جميع أعضائها، فكان من الواجب على مجلس النقابة أن يهتم بالمطالبة بتنفيذ مواد دستور 2014، والذي سبق وأن أعلنت النقابة موافقتها عليه، ومن ثم الاهتمام بحقوق الأطباء ومنهم ضحايا وباء كورونا وأسرهم
ومن ناحية أخرى فإن مادة (32 ) من دستور 2014 تنص على أنه "لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة"، في حين تنص مادة (33) على "تحمى الدولة الملكية بأنواعها الثلاثة، الملكية العامة، والملكية الخاصة، والملكية التعاونية". وهذا يعنى بطلان إجراءات الخصخصة وتطبيق قانون الشراكة مع القطاع الخاص، والذي تم إقراره عام 2010 وتوقف بعد قيام ثورة يناير 2011، ثم عاد للظهور من جديد وبقوة في السنوات القليلة الماضية. وتطبيق هذا القانون المعيب يزيد من الأعباء المالية على المرضى من ناحية، كما أنه يعتبر تفريطا واضحا في الأصول الاستثمارية لشعب مصر بالمخالفة لدستور 2014، والذي اعتمدته اللجنة التنسيقية ضمن قواعد الحوار الوطني.
الحوار الوطني بين الشكل والمضمون:
وحيث أن نقابة الأطباء هي منظمة مجتمع مدني تهدف إلى تحقيق مصالح جميع أعضائها، فكان من الواجب على مجلس النقابة أن يهتم بالمطالبة بتنفيذ مواد دستور 2014، والذي سبق وأن أعلنت النقابة موافقتها عليه، ومن ثم الاهتمام بحقوق الأطباء ومنهم ضحايا وباء كورونا وأسرهم، والمطالبة بأن تشملهم مظلة القانون رقم 16 لسنة 2018 والخاص بضحايا العمليات من أفراد الجيش والشرطة، وذلك لتحقيق العدالة المجتمعية لأفراد الجيش الأبيض وأسر ضحايا كورونا منهم، حيث أن القانون ممول من موازنة الدولة ويشمل جوانب مادية ومالية ومجتمعية ومميزات في التعليم والتوظيف والسكن، وذلك خلاف قانون مخاطر المهن الطبيبة والممول من جيوب الأطباء ويصرف إعانات مالية ولدفعة واحدة فقط، ويشمله القصور وتغيب عنه العدالة، وذلك إضافة إلى الحوار الهام المفترض وجوده مهنيا حول أهمية الحرية للآلاف من أفراد الأطقم الطبية في السجون والمعتقلات والتي هتفت من أجلهم حشود الأطباء في الجمعية العمومي بدار الحكمة وسط القاهرة، رافعة شعار "جمعية الكرامة " يوم 12 شباط/ فبراير عام 2016، في ظاهرة لم تشهدها النقابات المهنية من قبل.
وتكون نقابة الأطباء بذلك قد أدت دورها المهني بصورة جيدة لخدمة أعضائها من الأطباء ورعاية أبناء الوطن جميعا بصورة عامة، في إطار شروط اللجنة التنسيقية من ضرورة الالتزام بدستور 2014 قولا وفعلا وتطبيقا على أرض الواقع.