قضايا وآراء

الجمهورية الجديدة بتونس: نهاية الديمقراطية أم نهاية انتقال ديمقراطي فاشل؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
سواء أسمينا مشروعه السياسي بـ"التأسيس الثوري الجديد" أو "الجمهورية الجديدة"، وسواء أتعلق الأمر بـ"انقلاب" أم بـ"تصحيح مسار"، فإن الرئيس التونسي قيس سعيد قد نجح -إلى حد هذه اللحظة- في تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية نسفت دستور 2014، وأنهت دور الأجسام الوسيطة (خاصة الأحزاب) التي هيمنت على النظام البرلماني المعدّل وعلى الديمقراطية التمثيلية، وشكّلت مسار الانتقال الديمقراطي في ظل سردية "الاستثناء التونسي"، ذلك الاستثناء الذي خُيّل للكثيرين أنه سيظل صامدا أمام استراتيجيات الثورة المضادة برعاية "محور الشر" وفرنسا.

لقد كان كل الفاعلين الجماعيين يرون الأزمة البنيوية للنظام السياسي وتجلياتها الدورية، وكانوا يعرفون بؤس محصول التوافقات والتسويات السياسية في المستوين الاقتصادي والاجتماعي، ولكنهم فضّلوا سياسة الهروب إلى الأمام، حتى أن السيد إلياس الفخفاخ (الشخصية التي اختارها الرئيس لرئاسة الوزراء بعد فشل حركة النهضة في تمرير مرشحها أمام البرلمان) لم ير أي إشكال في الحديث عن ضرورة المرور إلى الانتقال الاقتصادي بعد نجاح الانتقال السياسي.

إن فشل الحزب الأغلبي (حركة النهضة) في تمرير مرشحه (لأسباب تتعلق بحسابات رئيس الحركة في المستوى الحزبي، وأسباب تتجاوز السياسي إلى الأيديولوجي في مستوى البرلمان)، وانتقال المبادرة إلى رئيس الجمهورية (وهو المعروف بعدائه للمنظومة السياسية كلها رغم تحالفاته/ تقاطعاته المؤقتة مع بعض مكوناتها)، واختياره لشخصية من خارج ترشيحات الأحزاب الوازنة برلمانيا (لم يكن لحزب الفخفاخ أي نائب برلماني).. كل ذلك كان يشير إلى فشل الانتقال الديمقراطي السياسي، وكان يبشّر أيضا بالدفع بأزمة منظومة "المجلس التأسيسي" -بحكّامها ومعارضيها- إلى نهاية كارثية.
لم يكن الانتقال الديمقراطي في الواقع إلا مسارا لإعادة تموقع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في أهم مفاصل الدولة، من خلال شرعية انتخابية صورية. ولم يكن ذلك الانتقال الديمقراطي أيضا إلا توسيعا لقاعدة تلك المنظومة بضمّ حركة النهضة بعد قبولها بـ"التوافق" مع ورثة المخلوع بشروطهم التي تضمن حماية مصالحهم المادية والرمزية

لم يكن الانتقال الديمقراطي في الواقع إلا مسارا لإعادة تموقع ورثة المنظومة القديمة وحلفائهم في أهم مفاصل الدولة، من خلال شرعية انتخابية صورية. ولم يكن ذلك الانتقال الديمقراطي أيضا إلا توسيعا لقاعدة تلك المنظومة بضمّ حركة النهضة بعد قبولها بـ"التوافق" مع ورثة المخلوع بشروطهم التي تضمن حماية مصالحهم المادية والرمزية، لكن مع الحرص على عدم التطبيع الشامل مع النهضة وتعريضها لحملات تضييق ممنهجة بالتحالف مع اليسار الثقافي (خاصة الوطد).

لقد كان وجود حركة النهضة قبل 25 يوليو/ تموز ضروريا لتمرير خيارات المنظومة القديمة دون مقاومة سياسية أو شعبية منظّمة (رفع الاحترازات على بعض بنود اتفاقية سيداو، الاعتراف بجمعية للجنسية المثلية، إعادة الاعتبار للبورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير" الذي تكتسب سائر الخطابات السياسية شرعيتها منه، تسريع سياسات التغريب وتكريس منطق التبعية الاقتصادية والثقافية لفرنسا، المصالحة الاقتصادية مع رموز الفساد الإداري والحزبي زمن المخلوع الخ.. الخ). وكان ذلك يعني -في التحليل الأخير- أن النهضة قد اختارت سياسة خاطئة (التوافق مع المنظومة الفاسدة بشروطها)، لأنها سياسة لا يمكن أن تؤديَ للتطبيع معها داخليا وخارجيا (كما توهّم قادتها)، بل تؤدي إلى تهرئة قاعدتها/ مصداقيتها الشعبية، وبالتالي تسرّع بنفي الحاجة إليها وإلى المشهد السياسي الذي تكون واسطة عِقده (النظام البرلماني المعدّل والديمقراطية التمثيلية).
كان الانتقال الديمقراطي السياسي يهدف إلى بناء "جمهورية ثانية" تقطع مع النظام الاستبدادي ومع مركزة السلطة وشخصنتها (عبادة الزعيم)، كما كان الانتقال الديمقراطي يهدف إلى بناء حقل سياسي طبيعي يحكمه التنافس حول البرامج لا الصراعات القاتلة حول "الهوية"

نظريا، كان الانتقال الديمقراطي السياسي يهدف إلى بناء "جمهورية ثانية" تقطع مع النظام الاستبدادي ومع مركزة السلطة وشخصنتها (عبادة الزعيم)، كما كان الانتقال الديمقراطي يهدف إلى بناء حقل سياسي طبيعي يحكمه التنافس حول البرامج لا الصراعات القاتلة حول "الهوية". لقد كان التونسيون ينتظرون طيلة عشر سنوات مأسسة مطالب الثورة وتحقيق انتظاراتهم المشروعة، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام واقع سياسي زاد في تأزيم أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

ونظرا إلى عجز النخب السياسية عن حل التناقضات الداخلية لمنظومة الحكم، وأمام إصرار تلك النخب على التمادي في صراعاتهم الهوياتية العبثية وإهمال القضايا الحقيقية لعموم الناس، كان واضحا أن السياق قد أصبح ملائما لحصول "إصلاح المسار"، وهو ما استغله الرئيس قيس سعيد ليعلن يوم 25 تموز/ يوليو عن إجراءاته التي ما زالت تحكم تونس إلى لحظة كتابة هذا المقال.

لم يُخف الرئيس قيس سعيد يوما موقفه السلبي مما نسميه بـ"مسار الانتقال الديمقراطي". وهو موقف لا يمكن فصله عن رأيه في الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها وأجسامها الوسيطة، بل لا يمكن فصله عن طبيعة مشروعه الذي طرحه -منذ الحملة الرئاسية- في مستوى البديل لا في مستوى الشريك. فالانتقال الديمقراطي السياسي حسب طرح الرئيس هو جزء من مسار الانقلاب على الثورة، وهو تكريس لمنطق الصفقات والتسويات التي أنجزتها النخب على حساب الشعب وبتزييف إرادته. وهذا ما جعلنا نتوقع منذ الأيام الأولى التي تلت "المرسوم عدد 1" -أي قبل صدور المرسوم عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021 وما تلاه من قرارات- أنّ الرئيس سيحول حالة الاستثناء إلى مرحلة تأسيسية جديدة بصرف النظر عن انتظارات الكثير من أنصار "تصحيح المسار" داخل الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني.
ألا تعني نهاية الانتقال الديمقراطي المرتبط بالديمقراطية التمثيلية وبالأجسام الوسيطة بالضرورة؛ نهاية الديمقراطية الليبرالية ذاتها في مشروع الديمقراطية "المباشرة" أو "المجالسية" التي تؤسس لديمقراطية أقرب ما تكون للديمقراطية الشعبية في الدول الشيوعية

إن مشكلة الرئيس الجوهرية ليست مع مسار الانتقال الديمقراطي، بل هي أساسا مع الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل والأجسام الوسيطة التي هيمنت على ما يسميه هو وأنصاره بـ"العشرية السوداء". ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو التالي: ألا تعني نهاية الانتقال الديمقراطي المرتبط بالديمقراطية التمثيلية وبالأجسام الوسيطة بالضرورة؛ نهاية الديمقراطية الليبرالية ذاتها في مشروع الديمقراطية "المباشرة" أو "المجالسية" التي تؤسس لديمقراطية أقرب ما تكون للديمقراطية الشعبية في الدول الشيوعية، أو حتى لنظام الولي الفقيه في الفضاء الشيعي الاثني عشري؟

ولو أردنا طرح السؤال بصيغة مختلفة وأكثر وضوحا لقلنا: ما هي الضمانات التي يوفرها الدستور الجديد للحريات الفردية والجماعية في ظل طرحه لنظام رئاسوي يهمين فيه قرطاج على كامل المشهد السياسي (بلا مساءلة ولا محاسبة ولا إمكانية عزل، بل مع إمكانية تفعيل فصل حالة الاستثناء أو الخطر الداهم لمنع حصول الانتخابات)؟ وهل سيبقى للأجسام الوسيطة من دور بعد إقرار نظام الاقتراع على القوائم الفردية (لا الحزبية) وتحكم الرئيس في المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية؟ وكيف سيكون واقع الإعلام بعد إلغاء "الهايكا"؟ وماذا ينتظر التونسيين بعد تمرير دستور "المنحة" الذي يعطي للرئيس الحالي -ولمن سيأتي بعده بالتبعية- سلطات دنيوية وروحية هائلة دون رقيب أو حسيب؟

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)