يفصل خيط رفيع بين المشاعر القومية التي تنطوي على حب الأوطان ومشاعر الفوقية والنرجسية التي تعتري كثيرا ممن يأخذون هذه المشاعر نحو توظيفها في معاداة الآخر، وتجييش الجماهير نحو عداوات وصراعات من دون حسابات واقعية.
لقد ذاقت دول أوروبا مرارة الفاشية والنازية القرن الماضي، ولديها حساسيات من الإفراط في هذه الجوانب سياسيا. غير أنها لم تكتسب مناعة ضد
الشعبوية التي تطل برأسها مجدد بين الفينة والأخرى، وكان آخر مظاهرها تبني حزب
المحافظين البريطاني تحت قيادة رئيس الوزراء بوريس
جونسون هذا النهج والعزف على الوتر ذاته.
ربما تكون إحدى حسنات النظام الديمقراطي الغربي أنه قادر على سحب البساط بسلاسة من تحت أرجل القادة الذي يعتريهم هوس النرجسية القومية، كما يحدث الآن مع بوريس جونسون.
المسألة ترتبط بفكرة ظهور ملامح تيار التمحور حول الذات القومية، وغض الطرف عن أية مشتركات إنسانية أو جغرافية أو ثقافية، والتعبير عن هذا التمحور عبر النفعية الشديدة في الخطاب السياسي والاستخفاف الواضح بكل أصول السياسية والدبلوماسية
ولفظ النرجسي هنا تكرر عدة مرات خلال السنوات الماضية على لسان عدد من المحللين في الصحف البريطانية، ولم يكن الأمر قاصرا على صحف يسار الوسط مثل صحيفة الغارديان، وإنما شمل أيضا صحفا محسوبة على تيار اليمين ومعروفا عنها تأييدها للخط السياسي والفكري لحزب المحافظين مثل صحيفة الديلي تلغراف. فقد نشر فيها الدكتور ستيفن تايلور، أستاذ علم النفس في جامعة ليدز بيكيت، مقالا بعنوان "أهو نرجسي أم فنتازي أم مختل عقليا؟ كيف أظهرت أيام بوريس الأخيرة كرئيس للوزراء جانبه الأكثر قتامة".
الوصف نفسه خلعته الكاتبة هادلي فريمان على الرئيس الأمريكي السابق
دونالد ترامب في صحيفة الغارديان قبل نحو عامين، في مقال بعنوان: "كانت نرجسية
ترامب العميقة بمثابة مرآة مشوهة لملايين الناخبين".
والأمر لا يتعلق بفكرة التحليل النفسي للرؤساء والمسئولين؛ لأن هذه ظاهرة ممتدة وليست متعلقة بحاكم دون غيره، بالإضافة إلى أن الأطباء النفسيين بشكل عام لا يحبذون فكرة التحليل النفسي المبني على التشخيص عن طريق الخطابات السياسية الإعلامية. المسألة ترتبط بفكرة ظهور ملامح تيار التمحور حول الذات القومية، وغض الطرف عن أية مشتركات إنسانية أو جغرافية أو ثقافية، والتعبير عن هذا التمحور عبر النفعية الشديدة في الخطاب السياسي والاستخفاف الواضح بكل أصول السياسية والدبلوماسية. وهو النهج الذي دأب عليه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ومن بعده رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.
ربما يكون مصير جونسون هذه الأيام رادعا لفكرة هذا التيار الذي مني بخسائر تلو أخرى على الصعيد السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن لا أتوقع أنه تكون هذه نهايته، فهو قد خسر جولة بسبب إحرازه لأهداف في مرماه، ولم يهزمه أحد
ربما يكون مصير جونسون هذه الأيام رادعا لفكرة هذا التيار الذي مني بخسائر تلو أخرى على الصعيد السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا، لكن لا أتوقع أنه تكون هذه نهايته، فهو قد خسر جولة بسبب إحرازه لأهداف في مرماه، ولم يهزمه أحد. إذ أدت فضائح ومشاكل حزب المحافظين الداخلية إلى هذه النتيجة التي لم يتسبب فيها ضغط من حزب العمال، المنافس الرئيسي، أو أي حزب أو تيار سياسي آخر. والذي صنع هذه الحالة العامة هو فراغ الساحة السياسية الغربية من خطاب سياسي جديد يواكب المستجدات العصرية والتحديات التي تواجه الدول الأوروبية والولايات المتحدة، خاصة على الصعيد الاقتصادي.
سيختار المحافظون
رئيسا جديدا للحزب الذي سيصبح رئيسا للوزراء، تماما كما اختار الأمريكيون جو بايدن مقابل دونالد ترامب. وكما أن عودة ترامب مجددا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليست مستبعدة، فإن نهج جونسون مرشح للعودة بشكل آخر سواء مع رئيس الوزراء القادم أو غيره؛ لأن الأمر أصبح ما يشبه الموضة السياسية. لقد شهدت بريطانيا حالة مشابهة بعد استقالة رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر عام ١٩٩٠ وتولي جون ميجور رئاسة الوزراء. وقتها كان حزب العمال في أضعف حالاته، ولم يستطع أن يستعيد مقاليد السلطة سوى عام ١٩٩٧ بعد أن قدم نفسه في ثوب جديد تحت قيادة توني بلير.
twitter.com/hanybeshr