مسلسل القتل المثير
تعيش مصر سلسلة من جرائم القتل والموت المثير للجدل، حيث تراجع "التريند السياسي" على مواقع التواصل لصالح "تريند الموت".. حوادث قتل وانتحار لا بد وأن يكون لها دلالة اجتماعية ونفسية وسياسية أيضا.
منذ خمس سنوات تقريبا استيقظت مصر على خبر انتحار مستشار بارز في مجلس الدولة داخل محبسه، كان رهن التحقيق في قضية فساد، شاع حينها أن طريقة الانتحار بكوفية غير مقنعة، وأن جهات أو شخصيات ما دبرت قتل المستشار الفاسد خوفا من افتضاح أمرهم في قضايا فساد كبيرة يحتفظ المستشار المتهم بوثائق لها، بحكم منصبه كمسؤول للشؤون المالية والإدارية في المجلس.
استبعد السذج والطيبون في بلادنا مثل هذا الاحتمال وتساءلوا في استنكار: هل يقتل القضاة؟.. قد يرتشون وقد يدلسون وقد يحكمون بالتوجيهات، لكنهم لا يقتلون!
قبل أيام أجاب المستشار أيمن حجاج على السؤال القديم بصراحة عملية حاسمة: نعم يقتل القضاة، ويلفقون ويمثلون بالجثث، ويهربون من القانون والعدالة.
أجاب المستشار أيمن حجاج على السؤال القديم بصراحة عملية حاسمة: نعم يقتل القضاة، ويلفقون ويمثلون بالجثث، ويهربون من القانون والعدالة
ما وراء الجريمة
المستشار الذي يحتل عدة مناصب رسمية واستشارية، تمتد من مجلس الدولة وناديه إلى المحافظات والبنوك والجامعات، تزوج سرا من إعلامية مغمورة، لكنها جميلة وتلبي حاجته في حياة مشوقة خارج الإطار الرسمي في العمل والحياة العائلية التقليدية.
هذا الزواج ليس جريمة، إنه مسألة شخصية لا أتورط في الحديث عنها، لكن الزوج المستشار قتل زوجته بعد مشهد مهين للطرفين، تضمن شتائم وسبابا وتبادل إهانات، ما يشير إلى طبيعة العلاقة المتوترة بين الزوجين.
هذا أيضا موضوع شخصي وقانوني لا أحب أن أخوض فيه، فالكلمة في الجرائم للقانون والمحاكم.. لكن المتهم هرب؟
هرب؟.. كيف هرب؟
لأنه "ذو حيثية"، فقد استطاع ترتيب أموره سريعا فأنجز عدة توكيلات لعائلته حتى يضمن عدم مصادرة أمواله، ثم اختفى.
اختفى؟.. أين اختفى؟
لا نعرف الآن، سنعرف متأخرا بعد تسوية الأمور، فهناك من يؤكد مغادرته للبلاد إلى بيروت أو دبي، وهناك من يؤكد عدم سفره للخارج ملمحا إلى أن اسمه ليس في قوائم المغادرة. وسواء سافر المستشار القاتل باسمه أو باسم مستعار أو هرب في الداخل، فإن القضية التي تهمني ليست زواج المستشار سرا، وليست قتله لزوجته بعد تراكمات أنتجت المأساة الدامية، لكنني مهتم أكثر بما وراء الجريمة، ويمكنني صياغة ذلك في عدة أسئلة بريئة:
- هل تحول الزواج العرفي إلى زواج رسمي بين الفساد والسلطة؟
- ماذا يحدث في مجلس الدولة؟
- هل هناك تأثيرات نفسية ضارة للحصانات البرلمانية والقضائية، بحيث تؤدي بعد فترة إلى نوع من الشعور بالوضع الاستثنائي، وأن الشخص المحصن فوق الجميع ويصعب محاسبته على أفعاله؟
- ما علاقة الفساد بالنفوذ السياسي والمناصب العليا؟
- كيف أفلت الفاسدون من عشرات الأجهزة الرقابية وجمعوا ثروات عقارية ومالية تفوق مرتباتهم بمئات المرات؟
ما طبيعة التحالف أو التواطؤ التي تؤدي إلى استمرار هذه المنظومة الفاسدة، برغم التطهر كل حين من العناصر التي تسقط إما بتقديمها للمحاكمة أو بالتخلص منها أو تسهيل تهريبها؟
- ما طبيعة التحالف أو التواطؤ التي تؤدي إلى استمرار هذه المنظومة الفاسدة، برغم التطهر كل حين من العناصر التي تسقط إما بتقديمها للمحاكمة أو بالتخلص منها أو تسهيل تهريبها؟
- وأخيرا على سبيل الاهتمام الثقافي، أتوقف عند الفحص النفسي للقضاة باعتباره عاملا مهما من عوامل الصلاحية للعمل. فإذا كنا أمام شخص لديه استعداد للقتل في لحظة انفعال، ثم يتمادى فيخفي الجريمة بطريقة المجرمين المحترفين متبلدي الإحساس، هل يصلح مثل هذا الشخص لتقلد وظائف عامة وثيقة الصلة بالقانون وعمل الدولة؟
كيف يطمئن المواطن في دولة مثل هؤلاء من قادتها والمتحكمين في صناعة قراراتها؟
نقص الشفافية وغياب المحاسبة
عندما أثيرت في زمن مبارك قضية لوسي ارتين، لم تكن هناك علاقة وطيدة بينها وبين المشير أبو غزالة، ربما زيارة في المكتب من أجل عرض مشكلة ما للمساعدة في حلها بالقانون، حينها استغل مبارك الفرصة لتصفية نفوذ أبو غزالة والتخلص من مداهنة مصطفى الفقي (مسرب المعلومات من القصر الرئاسي)، كما استغلها جهاز الشرطة في تسوية خلافات بين تجار سلاح وشركاء قدامى يجب التخلص منهم. وتم تضخيم القضية في الإعلام باعتبارها فضيحة تجذب الرأي العام، بعيدا عن الخلفيات التي تشير إلى منظومة الفساد وصراعات أجنحة المافيا المحلية داخل أجهزة الحكم.
كذلك بعد أن كشفت الشرطة في دبي عن
قاتل سوزان تميم، واتضح تورط إحدى الشخصيات القريبة من النظام ومن مبارك شخصيا، رفع مبارك يده عن هشام طلعت مصطفى، ورفع يد مبارك تعني رفع الحصانة وتقديم هشام للمحاكمة حتى نثبت أن لا أحد فوق القانون، وأن دبي لن تحرج القاهرة، لكن المشكلة تظل في جوهر الدوافع التي تفسد مثل هذه الشخصيات وتصور لها أنها فوق القانون وفوق المحاسبة، حتى لو نهبت وزوّرت وقتلت..
الدوافع التي تسهل الجريمة لأصحاب النفوذ، لا يتحكم فيها السلوك الشخصي فقط، لكنها تتضخم بتأثير البيئة العامة التي تتيح لأي جهة تكييف الجريمة بالصورة التي تراها. فهؤلاء الأشخاص الفاسدون مثل شلبي وحجاج وشيرين ومرتضى و.. عملوا أو ساعدوا في تلفيق وقائع كثيرة، وتزوير انتخابات وتصنيع صور وهمية جعلتهم لا يعترفون بالواقع، لأنهم يتلاعبون به طوال الوقت
وفي رأيي أن الدوافع التي تسهل الجريمة لأصحاب النفوذ، لا يتحكم فيها السلوك الشخصي فقط، لكنها تتضخم بتأثير البيئة العامة التي تتيح لأي جهة تكييف الجريمة بالصورة التي تراها. فهؤلاء الأشخاص الفاسدون مثل شلبي وحجاج وشيرين ومرتضى و.. عملوا أو ساعدوا في تلفيق وقائع كثيرة، وتزوير انتخابات وتصنيع صور وهمية جعلتهم لا يعترفون بالواقع، لأنهم يتلاعبون به طوال الوقت.
والمشكلة أن هؤلاء الملفقين أيضا غير أكفاء، بمعنى أنهم كمعظم المجرمين يتركون ثغرات خلفهم لأنهم لم يتدربوا على دراسة القرارات وإتقان أعمالهم، لذلك تتهاوى الشخصية وينكشف مستواها في التفكير وفي التنفيذ. فالقاضي الذي أبلغ الأمن أن زوجته اختفت بعد اتصال عن ذهابها إلى الكوافير، كان يتصور أن جهات الأمن يجب أن تتعامل مع بلاغه كمسلمات لا شكوك فيها، في حين أن الإجراء الأول للأمن هو طلب كشف اتصالات هاتف الهانم وهاتف القاضي لمعرفة هل صدرت مكالمات في هذا التوقيت، ومواعيدها ومدتها حسب الرسالة التي تتضمنها المكالمة. كما أن القاضي الذي طارد سائقه في المزرعة وأمسك به، لم يتخلص منه باعتباره الشاهد الوحيد، لكنه تركه ليصبح قوة ضغط وابتزاز و"كعب أخيل" في الجريمة البشعة التي ارتكبها.
مصر لديها جيل من النخبة الفاشلة حتى في ارتكاب الفساد المتقن، لديها جيل من القادة لا يستطيع أن يحمي نفسه، قيادات هشة في التفكير وفي التنفيذ، قيادات تقتات على الفساد السهل، وتثبت عند أول امتحان صعب أنهم لا مجرمين ولا قضاة ولا حتى أزواجا صالحين
هذا يعني أن مصر لديها جيل من النخبة الفاشلة حتى في ارتكاب الفساد المتقن، لديها جيل من القادة لا يستطيع أن يحمي نفسه، قيادات هشة في التفكير وفي التنفيذ، قيادات تقتات على الفساد السهل، وتثبت عند أول امتحان صعب أنهم لا مجرمين ولا قضاة ولا حتى أزواجا صالحين.
إذا طبقنا حالة وائل شلبي وأيمن حجاج على المؤسسات العامة، فإن نقص الشفافية وغياب المراقبة لسلوك وميزانيات ما يسمى بالمؤسسات السيادية، لا شك أنه يؤدي كل يوم إلى تغذية اتجاه الفساد والشعور باستباحة كل القوانين والأخلاقيات وكل شيء. ولعل "متلازمة ستانفورد" عن قدرة السلطة على تحويل الناس إلى مجرمين؛ تكشف لنا حقيقة ما يدور في قلب النظام البيروقراطي، وبالتالي يمكن أن ينتقل إلى المجتمع في صورة حالات فردية تسهل للناس ارتكاب الجرائم باعتبارها سلوكا عاديا، بمعنى "حد ضايقني أو
بنت رفضتني ممكن أقتلها وخلاص"، لذلك فإن علاج مشكلة الجريمة الفردية يبدأ بعلاج القلب الفاسد للنظام، وقديما قالوا: السمكة تفسد من رأسها، ولا شك في أن رأس السمكة قد فسد وتعفن ورائحته تفسد كل شيء حوله.
[email protected]