هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قال أبو بكر عبد الرزق السياسي السوداني والمشتغل في الدعوة الإسلامية الحركية، إن للسودان نموذجا نادرا في التعايش الديني يمكن أن يكون قدوة للمجتمعات الأخرى، ورأى أن الاختلافات موجودة ولكن للبلاد بيئتها المتعددة والمتباينة التي أنشأت برنامج (حد أدنى وقاسم مشترك أعظم)، مشيرا إلى الجدل المحلي الذي أثير حول الترحم على شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة، معتبرا أنها حوارا عقيما يصرفنا عن القضية الأساسية أن شيرين أبو عاقلة استشهدت في سبيل قضية الدفاع عن قضية الأمة المستطعفة المغتصبة التي ينبغي أن تؤوب إلى أهلها.
وتاليا نص المقابلة:
س ـ للسودان إرث من التعايش الديني.. إلى أي مدى حقق هذا النموذج أهدافه؟
ـ السودان بلد متعدد الأعراق واللغات والمناخات الجغرافية والموارد، وأي بلد بهذه التركيبة يقتضي فيه الحال أن يشهد اختلافا باعتباران الخلاف سنة من سنن الله التاريخية ومن السنن الكونية ولا يزال الناس مختلفين إلا من رحم ربك، إلا أن السودان استطاع أن يصنع بيئة تعايش بين كل الأديان البشرية لمدى عال من التوافق والتمازج الاجتماعي والعيش المشترك سواء على مستوى المدن أو القرى، وهو تعايش بالقدر الذي لا تعلم عن أي دين ينتمي أشخاصه اذا لم ترى شعائر أو طقوس دينية تمارس.
السودان صنع العديد من التقاليد والأعراف المشتركة والفنون والقيم بالقدر الذي مكن لهذا التعايش وجعل كأنما الناس ينتمون إلى ملة واحدة أو هوية واحدة.
استطاع السودان أن يصنع برنامج حد أدنى وقاسم مشترك اعظم، وبالتالي هناك مناخ اجتماعي آمن ومسالم ومتكاتف ومتكافل بالقدر الذي لا تستطيع أن تفرز فيه من همالمسلمين ومن هم المسيحيين ومن هم الوثنيين الا بعلامات ورموز واضحة، بل أن الكنيسة تمثل نموذج للتعايش في انحاء السودان.
ونستطيع أن نقول إن للسودانيين ثقافة مشتركة في انشاء بيئة نادرة للتعايش الديني وعلى الرغم من هذا التباين بخاصة في اللغات الا أن ذلك لم يحول من الوحدة الاجتماعية.
والنموذج السوداني نادر في كل الدنيا دون أن يكون هناك بروز واضح في لأخذ والعطاء ما يشير إلى وجود هوية مختلفة، و يمكن أن يكون السودان نموذج يقتدى للمجتمعات البشرية الأخرى.
س ـ على الرغم من توفر اجتهادات دينية فإنه أحيانا تظهر فتاوى وتصرفات معاكسة لمفهوم التعايش الإسلامي مع الأديان والمعتقدات الأخرى؟
ـ بالنسبة للاجتهادات الدينية فهي كلها من مشكاة واحدة وتوجد قيم مشتركة في الأديان السماوية التي يمكن أن تؤسس للتعايش، لأن الرسول (صلعم) انما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وبالتالي يعالج ثغرة محدودة في اطار المنظومة الكبرى، وأصول الأديان المشتركة لا تحدث مجانبة.. هي تمثل الأصول الثقافية للثقافة السودانية وبالتالي هناك أمر بوحدة هذه القيم يتوافق عليها الناس ويتعايشون.
مسألة الاجتهادات متروكة للكسب المعرفي وأن تفضي إلى مزيد من الانسجام أو تفضي إلى المجانبة لكن القرآن ينص شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ).
وينص القرأن الكريم (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، فطبيعة الإسلام الموجود في السودان يوفر احترام للآخر بالقدر الذي يحترم ثقافته وقيمه ومجانبته، وهو دين يعترف بخصوصية الآخرين حتى على مستوى الاحكام الشرعية فقد امرنا بترك غير المسلمين لاحكامهم وشرائع دينيهم وتقول الآية 42 من سورة المائدة (سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين) ..ورغم أنها تتحدث عن اليهود بكل سيئاتهم إلا أن الخيار لنا أن نحكم بينهم أو نعرض عنهم إذا لم يختارونا حكما بينهم.
القرآن أمرنا بأن نترك الآخرين بما يدينون وأن نحترم خياراتهم الشخصية، وكذلك الأحناف يقولون إن الخمر ان كانت غير مال عند المسلمين لتحريم الإسلام لها ولكن مال له قيمة عند أهل الكتاب لذلك من أهرقها أو دفقها من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها.. ورغم أن بعض كتبهم تحرمها ولكنهم لا يدينون بهذا التحريم وبالتالي فإننا غير ملزمين بتطبيق الحق وفقا لاعتقادنا ولكن نطبق عليهم ما يدينون وما يعتقدون وهو رأي الأحناف وهو يوافق الأية 24 من سورة المائدة.
وكذلك الأمر على مستوى الأديان السماوية أو على مستوى الأعراف الاجتماعية التي يدينون بها ويصيغون بها حياتهم الاجتماعية ويحبكون نسيجها، فنحن مأمورون أن نحترم خياراتهم وهم مأمورون أن يحترموا خياراتنا، لذلك هنالك مساحة واسعة من القيم الاجتماعية والتقاليد والأعراف التي تكفل مثل هذا التعايش، وتؤكد على اجتهادات مستنيرة يمكن أن تمكن لهذا التعايش بشكل أدق وأفضل وبالقدر الذي يقدم نموذج لمجتمع متحاب ومتعايش بسلام ويقدم نموذج للآخرين احتذاءا وقدوة.
والاجتهادات إذا كانت قائمة على علم فقهي تتكئ على مرجعية النص القرآني، فوهو النص الوحيد الذي يمكن أن نقيس على قراره كل المراجع الأخرى، فإذا كان لنا أصول في الفقه فهي تبدأ من المصدر الأول وهو القرآن الكريم ومن ثم السنة ومن ثم الاجتهاد، وهي جميعها مصادر تدعو للتعايش الاجتماعي، ويعلمنا النص القرآني أنه ينبغي أن نحترم بعضنا ونتعايش وأن الدين يتأبا على الاكراه لأن ما وقر في القلب لا تستطيع أن تغيره باجراءات لأنه مسألة قلبية داخلية يصعب الإحاطة او السيطرة عليها.
نحن مأمورين أن لا نكرههم على دين لان القرآن ينص (لا أكراه في الدين فقد تبين الرشد من الغي) وهذه الآية تحدثت عن مسارين في التفسير، مسار أننا لا ينبغي أن نكره الآخرين على دين لا يؤمنون به والمسار الآخر أن الدين بطبعه يتأبى على الإحاطة والسيطرة والاكراه وغير قابل لذلك البتة كذلك القرأن يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) فالآية تبتدر بالقول: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) وفي نص آخر (ولا يزالون مختلفين) وفي ذات الوقت (لو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفتكره الناس حتى يكونا مؤمنين) فالله تعالى يؤكد على قدرته على الزام الناس جميعا أن يكونوا على دين واحد، ولكن لا يريد ذلك على الاطلاق لأن الله سبحانه وتعالي خلق الناس مشارب مختلفة، والله خلق اصول للفطرة نقية كل إما شاكرا وإما كفورا، وهي ارادة المولى الله في أن يجعل للناس أصحاب مشيئة وإرادة في اتخاذ القرار الذي يحبون ويشتهون.
لذلك فإن الله تعالى استودع الناس الحرية وجعلها سابقة على الايمان بل هي مدخل الايمان، وجعل العقل النظير للقوم الذين يتفكرون وأولى الالباب والعلماء، لذلك لا ينبغي أن نفرض ايمانا على شخص لم يختاره قط بأن الاجبار على الايمان لا يقبل عن الله سبحانه وتعالى ، والقرآن الكريم يستنكر على الرسول عليه الصلاة والسلام (ما انت عليهم بجبار) ويوجه (فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ووكذلك ذكر ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم) وكل ذلك يوم القيام اما في الدنيا فالحرية هي الأرضية السوية الصالحة لصناعة التعايش الاجتماعي والاجتهادات المستنيرة الواعية بآراء تتكي على مرجعية النص القرآني وليس على أقوال الرجال والروايات، وآراء تمكن الناس في شفافية النص القرآني بالقدر الذي يعمق بالتعايش الإنساني.
س ـ هل يمكن للجدل المحلي الذي دار حول مقتل شيرين أبو عاقلة وما إذا كان مبررا الترحم عليها أم لا، أن يؤثر في مسألة التعايش بين الأديان؟
ـ هذه مسألة يجب أن تترك لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بللسرائر ومواضع القرآن، والقرآن الكريم يقول (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وكذلك القرآن الكريم يقول (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا)، ولذلك ندع الأمر لله سبحانه وتعالى وهو صاحب الامر من قبل ومن بعد وهو الذي يحاسب بالنار أو بالجنة وما كان يجب أن ندخل في مثل هذا الحوار العقيم الذي يصرفنا عن القضية الأساسية أن شيرين أبو عاقلة استشهدت في سبيل قضية الدفاع عن فلسطين وهي القضية الأولى والمركزية، وقضية الأمة المستطعفة المغتصبة التي ينبغي أن تؤوب إلى أهلها، وأن نطرد الاحتلال، وأن نحرر فلسطين، لذلك من شاء فليترحم عليها ومن لم يشئ هذا خياره والله سبحانه وتعالى هو صاحب القبول، وما ينبغي أن نتدخل في مثل هذه الأشياء الغيبية، لأن الخلاف موجود عبر التاريخ في تفسير هذه الآيات لأن هذه الآية من سورة البقرة لا تشترط الايمان إلا بهذه بقضية الوحدانية، وبالعمل الصالح للدار الآخرة. لكن الحديث الذي دار إن لم يؤثر سلبا على التعايش لن يكون إيجابيا لأننا أمرنا بأن ندعو بالموعظة الحسنة، والرسول عليه الصلاة السلام استطاع أن يحدث تعايشا فريدا في المدينة وأسس اول دولة إسلامية في التاريخ البشري.
س ـ ما هو تقييمكم لدور الدعاة والعلماء ورجالات الدين في مسألة التعايش الديني؟
ـ أنا لا أقول رجال الدين.. ولكن الذي يقرأ القرآن قراءة فاحصة وبوعي تام يستطيع أن يقدم فقه دقيق ومتقدم ويرتب أوليات الاحكام الشرعية ويناظر بين قيمها المختلفة، وبالتالي يستطيع من جماع النظر إلى النص القرآني في اطار من الوزن والتقييم وفي اطار النظرة الكلية التوحيدية والسياق القرآني ويسطتيع أن يوحد بين كل النصوص القرآنية وأن يصل الى الخلاصة التامة بما يقدم اسلاما مستنيرا يمكن لهذا التعايش الاجتماعي ويعبر عن علم حقيقي.
في تقديري أن الاتكاء على اقوال الرجال لا يصنع فقيها لأن الفقه هو الفهم الدقيق لاحكام الإسلام في اطار التنزيل، وحركة التغيير الاجتماعي نحو تعايش اجتماعي افضل ومواطنة حقيقية يمكن أن يستفيد من هذا الفقه الجميع ..نحتاج لفقهاء ممن يمارسون الحركة اليومية والكسب المعرفي العميق والاحاطة بالنص الديني من أجل فقه جديد يعترف بالآخر ويمكن لحقوق الانسان ويوفر للحرية في طلاقتها لناس جميعا بعضهم بعضا وسواء بسوا، والحرية هي قيمة مطلقة في الغير والذات ولا تتوفر إلا لصاحب علم يقرأ بعمق وفحص ودقة للوصول إلى هذا الفهم الإيجابي الذي يمكن للتعايش والحرية التي هي المناخ الذي ينشأ فيه التدين.